في البدء كانت سومر.. قصة الماء والطين ..

الحلقة الرابعة
تواصل ثقافية الصباح الجديد نشر حلقات من كتاب: سرقة حضارة الطين والحجر للكاتب حميد الشمـري

تحدثنا في الحلقة السابقة عن النهرين العظيمين ( دجلة والفرات) ودورهما في نشأت الحضارة العراقية القديمة وقد اسماهما الباحث: الحضارة التي انجبها الماء والطين.
‏بدأ عقل الإنسان السومري ينتظم وينظم حياته وصلاته بالمحيط الجغرافي والمجتمعي حيث وجد نفسه محاطا بالماء عنصر التحدي الأول الذي كثيرا ما كان يستفزه ليثبت قوته وجدارته إزاءه . حيث ان فيض الماء في الوادي يأتي في غير موسم الحاجة أليه فإن لم يسيطر عليه فسيكون مديرا . فكان لابد له أولا أن يتصدى لهذا المارد للوقوف بوجه سطوته وطغيانه ثم إخضاعه . فكانت العبقرية والارادة تحت الاختبار حيث نجح السومري في التصدي وقهر عنفوان النهرين . وحيث تحتسب جميع المنجزات الحضارية في بلاد الرافدين إلى نجاح قوة الانسان ومقدرته العقلية في صراعه ضد هذين النهرين وقوى الطبيعة الوحشية التي لا ترحم . ثم كان انتصاره المجيد عليها جميعا وتسخيرها لصالحه قبل أن يبدأ بالبناء الحضري المستقر والزراعة الاقتصادية والنشاط التجاري الواسع (يجدر بنا ان نعترف في هذا المكان بأن كل ما انجزه الانسان في العراق القديم انما كان ثمرة الصراع العنيد المستمر ضد الطبيعة المخادعة – جورج رو – العراق القديم)وكانت الأراضي البعيدة عن النهرين جافة غير مزروعة فكانت الضرورة لبناء السدود وتحويل قسم من ماء النهرين الى مجار جديدة وفتح الرواضع والقنوات والنهيرات والجداول الصغيرة حول المدن والقرى والمزارع وكان هذا الجهد واحدا من أشكال النجاح في التحدي . وكانت الظروف المناخية وتقلبات الطقس الحادة في وسط وجنوب بلاد الرافدين وجنوب غرب إيران وجنوب شرق بلاد الشام قد حتمت والزمت السومري أن يتصدى لهذه الطبيعة الشرسة ثم يتحالف معها بعد ان يكيفها ويخضعها من خلال أساليب زراعته وصناعته ومعيشته وتنقلاته وحروبه وسلامه واستقراره ومعارفه العملية والعلمية ومعتقداته الدينية ومسار حضارته ومواد البناء المستخدمة في أسوار مدنه وبيوت سكناه فكانت هذه خطوته الاولى في الاتجاه الصحيح لبناء حضارته في هذه المناطق الطينية والمروية دائما

‏العقل السومري المبدع
‏وبسبب طبيعة علاقاته الاقتصادية والتجارية مع جيرانه من الشعوب والتحديات التي افرزتها تلك العلاقات اصبح الامر موجبا على العقل السومري المبدع ان يبدأ بالاختراع فكان دولاب الفخار في ( 4000 ‏ ق م) والعجلة في ( 3000 ‏ ق م) , وقد ساهمت تلك الاختراعات في تطور هذه العلاقات ودلت على قوة ودينامية هذا العقل , حيث انتقلت العلوم والفنون السومرية الى الشعوب المجاورة بواسطة تاجر العربة الذي كان يتبادل معهم المنتجات والمعارف والثقافات , وبسبب حروبه وترحاله واسفاره ومتابعته لأمور التجارة أصبحت للسومري معرفة عملية كافية في علوم الحساب والرياضيات وبسبب ظروف الطقس والدورات المناخية وتعاقب الفصول وموانيت الفيضان وانحساره ومستوياته اصبحت له معرفة بالفلك ودوران الشمس والقمر والارض ومعرفة ماذا عليه أن يزرع ومتى وهنا ظهرت عبقريات مدهشة في التفكير والاختراع , وهذا أدى الى حدوث ثورة زراعية في انتاج الحبوب خاصة بعد اختراع المحراث النصف ميكانيكي في (000 4‏- ق م ) , حيث يتم البذار بواسطة قمع ثابت يوزع بذار الحبوب بنظام يتحكم فيه الانسان , ويثبت ذلك كثرة الاهراء وصوامع الغلال المكتشفة في المدن السومرية , ورافقت ذلك ثورة صناعية في مجل الصناعات الحرفية البسيطة مثل الفخار الملون المتقن الصنع وانتاج وتصنيع الألبان وتسويقها واستخدام الموازين والمكاييل وبسبب هذه التطورات اوجد السومري لنفسه مجالا اخر لإظهار قدراته وهو العمل والتفكير واحترف قسم كبير من السكان مهنة صيد الاسماك واتسع نظام الملكية الخاصة وسلسلة من التطورات في مختلف مناحي الحياة المرتبطة ببعضها مكانا وزمانا منها استبدال الختم المسطح بالختم الاسطواني , ثم جنحت به الضرورة لبناء بيته من الطين المفخور(الطابوق) في المدن الكبيرة ذات الأسوار والخنادق الدفاعية وشيد القصور الملكية والزقورات والمعابد الكبيرة التي سكنها الكهنة ليكونوا قريبا من الآلهة ووسطاء بينها وبين الانسان وجعلها مركزا للمدينة تلتف حولها الاحياء والاسوان وبدأ المجتمع يأخذ ابعادا طبقية وان كانت من عرق واحد وديانة واحدة تبدأ بالملك على رأس الهرم فالأمراء والسادة والكهنة والاحرار وعبيد الأرض وبدأت حاجاته المستجدة تأخذ منحى آخر وتفرض نفسرها على عمارته وفنونه وأخذت المدنية والحضارة تؤسس لنفسرها بيئة مستقرة تستطيع استيعاب واحتواء هذا النتاج الحضاري المميز, (فنجد في سومر اول ما اسسه الانسان من دول وامبراطوريات , واول نظم الري , واول استخدام للذهب والفضة في تقويم السلع , واول العتود التجارية م واول نظام للائتمان, واول القوانين , واول المكتبات واول استخدام للكتابة في نطاق واسع , واول قصص الخلق والطوفان , واول المدارس والمكتبات , واول الادب والشعر, واول اصباغ التجميل والحلي , واول النحت والنقش البارز, واول القصور والهياكل . واول استعمال للمعادن في الترصيع والتزيين , واول العقود والقباب والاقواس – قصة الحضارة – ديورانت)
‏(وعلى هذا المسرح غير الدقيق التحد يد الآهل بالسكان والثقافات المتباينة نشأت الزراعة والتجارة والخيل المستأنسة والمركبات , وسكت النقود وكتبت خطابات الاعتماد ونشأت الحرف والصناعات والشرائع والحكومات وعلوم الرياضة والطب والحقن الشرجية وطرق صرف المياه , والهندسة , والفلك , والتقويم والساعات , والورق والحبر م وألفت الكتب وشيد ت المكتبات والمدارس , ونشأت الآداب والموسيقى والنحت وهندسة البناء , وصنع الخزف المطلي والمصقول والاثاث الانيق الجميل ونشأت عقيدة التوحيد ووحدة الزواج واستخدمت ادهان التجميل والحلي وعرف النرد والداما , وفرضت ضريبة الدخل , واستخدمت( المرضعات وشربت الخمور) – ديورانت)

وحدة حضارية
‏عندما نلقي نظرة متفحصة على الطبيعة الجغرافية لبلاد ما بين النهرين وجوارها والحضارات المتمددة المتعاقبة في المنطقة نجد أنها تختلف بين منطقة وأخرى إلى حد التطرف أحيانا تبعا لشكل تضاريس الارض , فمن جبال وعرة وعالية في الشمال إلى تلال ووديان في الوسط وأراض سهلية غرينية ومسطحات مائية في الجنوب و يوحد جميع هذه المناطق المتناقضة جغرافيا والحضارات المتعاقبة زمانيا هو اتصالها مكانيا وارتباطها بالنهرين الخالدين وحركتهما , ورغم هذا التناقض الجغرافي والمناخي إلا أن بلاد الرافدين عاشت وحدة حضارية تجاوزت تلك التناقضات الجغرافية والمناخية وكان في داخل هذه الوحدة الحضارية خصوصيات لكل شعب من شعوبها حتى وإن حدثت بينها حروب وصدامات ويأتي ذلك منسجما مع روح حضارة الوادي ذات الوجوه المتعددة والصراع الفكري المحتدم الدائم والمخاضات المستمرة والمتألقة , لقد عاشت هذه الشعوب وحضاراتها المختلفة في بوتقة واحدة صهرها وأتسع لها محيط واحد صبغها بصبغة رافدينية فأفرزت وحدة حضارية أصيلة متميزة ومتنوعة , وكانت منجزاتها الفنية تنافس أعظم ما عرفه الانسان في كل العصور اللاحقة وكانت ارضها حبلى على الدوام وفي كل غيث حضاري تلد مولودا صحيح البدن معافى ينشأ ويشب قويا متمكنا ومختلفا وحيث أن التاريخ يتوقف ويتذكر البدايات الناجحة فقط , فقد توقف هنا طويلا وبدأ ينسج قصة المسيرة الحضارية الناجحة للإنسان الرافديني.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة