غرام الربيعي.. القصيدة تخلق أنساقها المتحولة

شاعرة ترسم العوالم الصعبة
1-2
د. سلمان كاصد

تتداخل النظرية النقدية حتى تنفتح المفاهيم الاصطلاحية على بعضها الآخر مما يقود كل ذلك إلى (التكاملية)النقدية, بحيث لا يظل المفهوم مغلقا, فمن الخصائص الأكثر اتساعا في المعنى أن تحيل النظرية النقدية ذاتها إلى نظريات أخر , أو تقاربها, ومثالنا في ذلك مفهوم «كسر أفق التوقع» الذي جاءت به نظرية التلقي والذي يعني حدوث تحول في بنية النسق إلى جهة نسقية مغايرة, مفاجئة, لم يتوقعها القارئ, إذ ليس هناك اشارات دلالية على توقعها, غير أنها في حال فحصها النقدي تجدها أكثر مقبولية, ولم تخرج عن السياق.
ويتنوع التغير النسقي هذا ما بين الفيلم السينمائي والرواية والشعر, إذ نجد مظهرين من هذا التغير, الأول في ثيمة (موضوعة) الفيلم والرواية والثاني في اللغة والتصوير التخييلي للقصيدة في الشعر, ولا يتبادل هذان المظهران في التغيرات النسقية بسبب أن الوحدة النصية للرواية أطول من الوحدة النصية للشعر.
ولكي أدلل على ذلك أحيل الى ما شاهدناه في أفلام هتشكوك وبخاصة فيلم الطيور والانحرافات الصادمة في المشاهد المتعددة اللا متوقعة, وفي فيلم (اليوم السادس) للمخرج يوسف شاهين, وفيلم « حصاة الصبر» للمخرج الافغاني عتيق رحماني, وذلك يحصل عادة في نهاية العمل (فيلم ,رواية), أما في الشعر وبخاصة قصيدة النثر فإننا نجد ذلك في تركيبة الصورة ولا تداولية اللغة. يقودنا هذا المفهوم إلى خطاطة ياكوبسن (المرسل, الرسالة, المرسل إليه) حيث يتحول النسق الإبلاغي الى نسق بلاغي في حال تحوير الخطاب بما لا يتوقعه القارئ, أي أن التحول في النسق يكسب الرسالة دلالتها الشعرية (البلاغية) بدلا عن الدلالة المعيارية (الابلاغية).
التحول النسقي الذي أتحدث عنه يدخل في كسر أفق التوقع وفي رسالة ياكوبسن بوصفهما مفهومين متعالقي الغاية, وهذا ما أجده في المفهوم الاصطلاحي للنسق المضمر في النقد الثقافي حيث يشتغل النقد على البحث عن المطمر من معنى في النص, وبذلك يصبح هذا النسق المضمر مظهرا من مظاهر تحولات الخطاب نحو الأدبية, وبهذا ندرك أن المفهوم النسقي يأخذ أشكالا متعددة في النظريات النقدية وهو في كل الأحوال لا يخرج عن كونه نسقا مغايرا, غير متوقع, لا يظهر بسهولة إلى القارئ حتى يفاجأ به من قبل (المرسل).
عندما نعود بالمفهوم إلى محاكمة نقود (عبد الله الغذامي) ,باستخدام ذات المصطلح (النسق المضمر) الذي حاول فيه أن يكشف الأنساق الثقافية التي تحكمت في نصوص (المتنبي, نازك الملائكة, أدونيس) لاكتشفنا أنه نفسه محكوم بنسق مضمر, وهو ما أراد فيه أن يحاكم هؤلاء الشعراء على أساس مفاهيمي, عقائدي, وكأن الغذامي يضع بين أيدينا المفتاح الذي يقودنا إلى اكتشاف توجهه النقدي أزاء هؤلاء الذين ينتمون إلى نسق واحد مشترك فيما بينهم.
قلت تتداخل المفاهيم النقدية باتجاه التكاملية ولكن بصياغات اصطلاحية مختلفة, وجميعها تصب في اطار إضاءة النص \ الخطاب, ولا تصح تلك المقولة التي تقول: إن الخطاب أو النص هو الذي يختار منهجه النقدي الذي يحاكم في ضوئه, بل العكس هو الأصح في أن النص| الخطاب ينفتح على مناهج نقدية عدة كونه متعدد الوجوه, هذا بالإضافة إلى أن المناهج تنفتح على بعضها باستمرار حتى أن المقارنة بينها باتت غير مستحيلة.
قلت: إن التغير النسقي اللغوي والتصويري لا يحصل إلا في الشعر تحديدا, لأن الشعر قائم على هذين العنصرين اللذين يشكلان أساس البنية الإنشائية فيه, والتي تكسر رتابة اللغة وتعيد تركيبها بطريقة خاصة, أي تحول النسق من العقلانية في (اللغة المعيارية) إلى (اللاعقلانية)في اللغة الشعرية, والتي تستهدف الأستمالة عن طريق التخيل والتصور والترغيب.
ولكي نفحص الخطاب الشعري الذي تقدمه الشاعرة العراقية (غرام الربيعي) نعتمد مفهوم كسر أفق التوقع الذي حفلت به قصائدها والتي امتازت بالقصر والاعتماد على التحول النسقي المباغت من خلال :
1)اللغة والثنائيات الضدية
2)التصوير التخييلي
3)الضمير المهيمن
1)اللغة والثنائيات
في قصائدها (قصاصات مرتبكة – نصوص قصيرة) , تحاول غرام الربيعي أن تعيد تشكيل القصيدة المختصرة , التي تعتمد كليا على تحول سريع في النسق من معناه المتداول إلى ما يدهش خارج التداولية, إذ ان الاشتغال على المدهش لديها يوازي الغياب الذي تريد استحضاره في نهاية القصيدة:
أول من يذبح اللحظة
ارتباك الخسارة
في هذين السطرين الشعريين نجد توزعا \ انقساما في الدلالة حيث بدا الزمن (اللحظة) هو العنصر الأساس في السطر الأول الذي يحتاج إلى تصور أن اللحظة الزمنية تقدم في هذا السطر منهكة, بدلالة (يذبح), غير أن السطر الثاني يعيدنا إلى نسق آخر يمكن تصوره كالآتي (أرتباك الخسارة أول من يذبح اللحظة ) أي أن السبب تأخر في هذه القصيدة القصيرة لكي تكون خارجة عن السياق الذي حول النص من خطاب تعاقبي – نحوي إلى خطاب شعري فيه من المفارقة الشئ الكثير.
قصيدة أخرى لها تقول:
العبارات كلما وبختها
أجهشت بالعويل
وهي تتشكل من ذات الإطار الذي كتبت به القصيدة سابقتها.
وهذا نسق متكرر لدى الربيعي, حيث يمكن أن نقدم السطر الثاني على الأول فتتحول القصيدة إلى إبلاغية, بينما في تشكيلها هذا الذي كتبت به الشاعرة القصيدة يبدو النسق بلاغيا أكثر وضوحا, حيث يظل المتلقي في حالة تصور غير متوقع عن العويل الذي تجهش به العبارات بعد توبيخها, وهنا نجد التحول التصوري قد طغى على الخطاب الذي بثته الشاعرة (المرسل) إلى المتلقي.
تقول الشاعرة:
الملثمون كالليل
المخادعون كالحفرة
الملتصقون كالدبق
نقش غامق على ثوب أسود
هنا لم تخرج بنا القصيدة في أسطرها الثلاثة الأولى عن المألوف في التشبيه , إذ اشتغلت كاف التشبيه في الأسطر الثلاثة بقوه, كما ان تشكل العناصر الثلاثة (المشبه, المشبه به, أداة التشبيه) مع اختلاف أوجه الشبه بدا قويا أيضا وواضحا , إذ الإخفاء يظهر في السطر الأول والثاني والثالث وليس ثمة إظهار إلا في السطر الرابع الذي بدا مغايرا تماما, إذ غابت أداة التشبيه عنه أولا واستجمعت الشاعرة الأسطر الثلاثة الأولى كونها نسقا تقليديا عبر التشبيه, لتصب جميعها في نسق مغاير:
نقش غامق على ثوب أسود
من خلال اعتبار (الملثمون, والمخادعون والملتصقون ) «لاحظ أنها على نسق وزني واحد (الفاعلون) قد استجمعوا في (النقش الغامق) وهم مختفون تماماً خلف الغامق كالغموض في النقش (الغامق=الغامض) واستجمعت الشاعرة (الليل, الحفرة
,الدبق) في الثوب الأسود وهنا نبصر تقارباً ضمنيا بين هذه العناصر الثلاثة والاسوداد.
تشبيهات متكررة
لم تقدم الشاعرة في أسطرها الأولى سوى تشبيهات متكررة مرتبطة بدلالة واحدة , إلا أنها في السطر الرابع خرجت بالدلالة المعيارية إلى الدلالة الشعرية عبر تحول النسق إلى ما هو بلاغي.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة