أدونيس واستعادة القصيدة الرائية

علي حسن الفواز

يبدو إن أدونيس سيظل شاهداً على الكثير من خرابنا الإنساني، والقليل من حرائقنا الشعرية، إذ هو يكتب بشغف العراف، وشبق الايروسي، وعواء المسكون بالألم، وفصاحة المطمئن إلى صوته..

ومع صدور الجزء السادس من أعمال الشاعر العربي التي تعيد إصدارها دار الساقي بعنوان (الأعمال الشعرية الكاملة)، والتي تضم الأعمال التي كتبت بين 2003 و2007، نكون أمام (حائط) شعري كبير، من الصعب إزاحته، من دون ممارسة شطارة التلصص، أو اعتماد حفريات (الثقب المعرفي) لإباحة لعبة الكشف والرؤيا.. قصائد هذا الكتاب تبدأ من مجاميعه الشعرية التي صدرت في الألفية الثالثة (تنبأ أيها الأعمى) و(أول الجسد آخر البحر) و(تاريخ يتمزق في جسد امرأة)، أي إنها كتابات بامتياز ما يكتبه أدونيس الرائي، إذ تحتشد الشعرية بتفجرات الوعي، وفداحة ما يساكنه من وحشة، تلك التي باتت تطال المكان والعقل والجسد واللغة والخطاب الذي نستعمله، واحسب إن إصراره على مواصلة الكتابة برغم كل الخراب هو محاولة للانتصار على أوهام الشيخوخة البايلوجية، والإصرار على الشعر هو مغامرة عقلية، وان الشاعر الذي لا يضخ قصيدته بالترياق العقلي سيكون أشبه بصائد الأيائل، ذلك الذي يسكنه هاجس البحث، لكنه لا يصطاد إلا الريح، أو القرون اليابسة والقاسية، والتي قد تقتله…

أعمال الشاعر أدونيس في هذا الكتاب تضع موضوعة الحب عتبة للتوغل في أعماق الكائن والكون واللغة، إذ تحمل في أعماقها هوس الإنسان بالجمال والمعرفة بوصفهما أشكالاً للحب، مثلما هو قلقه الدائم بالانحياز إلى كتابة النص المعرفي المفتوح، ذلك النص المتوهج والمتدفق والعابر، فعبر شواظ هذه الرغبة العميقة يعيد الشاعر إنتاج سؤاله الأنثولوجي ( بشأن كل ما يشكل الوجود واللغة والرمز، كأن الحياة ليست في النهاية سوى هذه الاستعارات).

الكتابة الشعرية عند أدونيس تظل تعيش هذا الهاجس الذي تعالق به، إذ تأخذ بتلابيب الزمن إلى الفضاءات الغامرة للغة، حيث يبدو الشاعر فيها أكثر انغماراً في التشكيل والتلوين، وفي ممارسة وعي ما تبيحه القصيدة، فهي صورة للوعي المفارق، اللجوج، والذي يجعل من هذه القصيدة لعبة أو مدونة غير ممنهجة، لكنها باهرة في التدفق والكشف، وفي تلمس تفاصيل الوجود، إذ يكون الوجود الشعري متعالقاً باستعارات اللغة، بوصفها كتابة في الكتابة، تدوين شغف الإنسان بالحياة والمعنى، وإحساس بما يمور به من أسئلة حادة، تلك التي تستنطق الذات والفكر والتاريخ والأفكار، وهذا ماحاول أدونيس أن يقدمه في أعماله المتأخرة، تلك التي تبدو وكأنها كتابة في معرفة النص، وليست كتابة في السياق..

قصائد هذه الكتب الشعرية، هي قصائد أدونيس الرائي، أو أدونيس الكشّاف الباحث عن وجوده من خلال اللغة، تلك التي تلبس عشرات الأقنعة، وتكشف عن عشرات المجازات، لأنها لن تكتفي بلغة(الوصل) بل ستتجاوز إلى أن تكون لغة الكائن وهو متورط بحريته…

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة