“قصائد صافينازية” ومدلولات المفردة

     الحوار الداخلي الذي يتصارع في أعماق الشعراء ، يفرز قصائد تستنطق تطاحن ذلك الحوار الصامت الصاخب في أن واحد ، كسيمفونية تتراقص على وجه الماء ، وإلا انتحر ذلك الجيشان ، وتوقف النزف الروحي ، ليصبح كلؤلؤة محبوسة في أحشاء قوقعتها.. ولان أعماق الشاعر يغلي بكل ماهو جميل ورهيف ويتقاطر ألما أجاجي العذاب ، يترجم ذلك الألم ولذة تلك الرهافة حروفا وكلمات ذات وقع موسيقي، بحساسية أكثر شعرنة ودلالة للتعبير.

   كل هذه الخلجات قد تحدث لأي شاعر له تجاربه الشعرية ، لكن حينما تحدث للأديب الراحل الشاعر( قحطان الهرمزي) تحس بغليان مرجله الداخلي الدفين ، عبر وشوشات أشعاره التي تحمل كل عبارة منها قارورة من عطر النرجس لتنثره. حالما تقع العين على تلك القصائد الخضراء التي تخاطب بأنفاس رقيقة ، مشاعر قارئها ، وتعزف رغماً عنه على أوتار أحاسيسه الدفينة ، معزوفات توقظ تلك الأحاسيس في منابعها الخفية.

   ورغم اتجاهات رياح نظم الشعر ، بقي ( الهرمزي ) محتفظا ً على لونه الخاص في التجديد الذي بدأ منذ أواسط الخمسينات ، وهو طراز الشعر المنطلق العبق بالصور الشعرية المنسوجة بطلاسم وترانيم مبهمة .

   ( قصائد صافينازية ) ديوان صاغ الشاعر فيه قصائده بنبض رومانسي تجتاحه تيارات مدارس أدبية مختلفة الاتجاهات .. قصائده تعبر عن أسلوبية معينة وتركيبة خاصة ، محملة بنفحات حالمة ، وقد وظف الشاعر أحاسيسه ليرفد بودقة شعره بنفس حداثتي جميل .

جرح في طرفي الأيسر

استوطن بين الخاصرة والقلب

جرح رقيق رهيف

يتسلل رحيقه إلى الرئتين

ويتفتح وردة بيضاء

في حديقة صدري الحالم

   أن مد عواطفه لا يعرف الجزر ، وعنان جيشانه الداخلي لا تكبحه إلا أبيات ، تنصب من منافذها إلى مداد قلمه :

  أسمعُ طرقاً ناعماً

 على نافذة قلبي المغلقة

 منذ زمن بعيد

 أسمع طنين أجراس تدق

 لفرح قادم بأجنحة بيضاء..

  وأنت تغوص في يم العبارات، تلمس لغة تعبيرية، ذات نسيج مرن، نسج الشاعر منه عبارات بقوالب سريالية لا افتعال فيها..

وما أنين أجراس اضطراباته إلا رد فعل لضجيجه الداخلي وهو يحضر مأتم آماله :                

 وضجيجي المدفوع إلى داخلي

 بأجراس اضطراباتي

 تئن كصوت جرس الكنيسة

 القادم من الجهة المقابلة         

وقد بلغت الحداثة في أشعاره مستوى لا متاهات ولا تشويه فيها، وليس كما تعمد شعراء الحداثة الغموض البحت في صورهم الشعرية.. إذ لا يمكن النظر إلى كل ما هو جديد إبداعا ، إلا إذا اقترن   ذلك الجديد باستخدامات لغة أنيقة ، جميلة، بقوالب تعبيرية جديدة وبفكر إيحائي معبر .

  يضم الديوان جملة من القصائد التي تتصف بالوضوح وبسلاسة اللغة مع اتصافها بالامتناع ..

 وان ما يؤاخذ عليه ( الهرمزي ) أن صافينازه برغم ساديتها ، حين كسرت جناحيه وجعلته ميسوراً لأي صياد ، يعود ثانية للانصهار معها في يم العاصفة :

 وسوف أعود قبل أن اخرج

 وننصهر معاً

 في يم هوجائية عاصفتينا               

   إن من يقتحم أسوار هذه القصائد يرى نفسه بين أمواج تاهت عنها سواحلها، فتجسد تلك القصائد، وجده الصوفي لمملكته وبأسلوب إيمائي ملغز، يحاول إيهام القارئ، بأنه لم يطلق سراح كلماته بعد،ولم يمنحها أجنحة بيضاء كما يريد أو كما يتمنى:

 وخيوطي متشابكة

 تعصى على الانفكاك

 وكلماتي التي لم أطلق سراحها

 منذ أمد طويل

 تعفنت في صدري

 وأصابها انشطارات

 شيزوفرنية رهيبة                             

   وكأن الشاعر كان يتنبأ بأنه بعد أن يحضر مأتم مملكته ، وبعد السيل الجارف من الغضب السياسي ، سيعود إلى المعاناة المأساوية مرة أخرى .

   وهنا يبرز الجوهر الفكري لمفردة ( صافيناز ) يحاول فيه القارئ، الكشف عن مدلولاتها ، ويغوص في تحليلات ذهنية واسعة،حتى تنتهي رحلة البحث عن متون الاستهلال في قصيدة (قرطبتي وقرطبته) حين يقارن نفسه مع الشاعر الاسباني( لوركا) الذي كان يعرف جميع الطرق المؤدية إلى مدينته ، لكنه لم يصلها أبدا :

قرطبته وحيدة وبعيدة / وقرطبتي وحيدة وقريبة / ولكن ..!!!

   والأساس الفلسفي في استجلاب الشاعر لمفرده ( قرطبة ) ذات الإيحائية المؤثرة عند الشاعر لوركا ، إنها تولد تداعيات في القوى الذهنية للقارئ مع المفردة الموحية الأخرى ( صافيناز ) والتي تزداد اتضاحاً ولمعاناً في استخدامات الشاعر للون الأزرق مع سياق استخدامه لتلك المفردة ، واللتان نعدهما ابرز عناصر قصائد الديوان، مما يزيد من وضوح الانطباع إن (صافيناز) الهرمزي هي مدينته الأثيرة (كركوك) وهنا يبرز البعد الرؤيوي الكامل لوجه المقاربة الاستخدامية لهاتين المفردتين (صافيناز) و (اللون الأزرق) الذي يحتضن خارطة موطن الشاعر (توركمن ايلى) ..

 مخاض جديد

 حب أزرق وولادة زرقاء

 كلما تمر صافيناز

 لا تنسى إلقاء التحية الزرقاء                                  

   والمتتبع لمفردة (صافيناز) في أعمال الشاعر الأدبية ، يقف عند قصة كتبها في بداية السبعينيات من القرن المنصرم بعنوان(جمهورية صافيناز) فيها الكثير من التجليات لمدينته الأم ،والتي وشحها بمفردة صافيناز(وترين يا وتري الموسيقي ،كيف اختلطت علي قبل هنيهة لغتي…ولم أدر هل أنا الذي كنت أتكلم أم غيري؟ ليتني امتلكت سحر اللغة،لأن اللغة الأم سيكون رئيسا في جمهوريتنا)…

ديوان (قصائد صافينازية) إبداع آخر يضاف إلى إبداعات الهرمزي السابقة ، فهو رغم ثرائه الأدبي في النقد والتحليل والقصة إضافة إلى المسرحيات والأوبرا، سيظل الشعر عنده هو العرق النابض في مزارع عالمه الأدبي الثر .. إذن..فالشعر صياغة فنية لعجينة صلصالية شفافة ، يصوغ منها الشاعر تماثيل في غاية الروعة.

  كان( الهرمزي ) محتفظاً  بإزميله ينحت ويبني ، ويكيّف قصائده ضمن عالمه الخاص .

  إذن: تلك هي رسالة الأدب الحبلى بالفن الإبداعي المزين بالمعاصرة وبالتجديد النابع من ينبوع الحداثة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة