ما الذي يمكن أن نجنيه من هذا الكم الهائل لوسائل الإعلام مختلفة الوظائف والأشكال والتأثير، غير هذا الضياع والتخبط وفصول الهزائم المرافقة لنا منذ عقود. إعلام أدمن على ضبط إيقاع حركته على رنين كيس الدراهم والدنانير فيما مضى، وعلى العملات النقدية الأشد بريقاً ورصيداً في عصر البترودولار، إذ لم يمر وقت طويل على تسلل الوسائل الحديثة للإعلام والتواصل الى مضاربنا المنكوبة بالاغتراب عن كل ما له صلة بالنهضة والتحولات التي عرفتها الأمم في القرون الأخيرة؛ حتى بسطت ممالك النفط والرسائل الخالدة والغاز سطوتها على الوافد الجديد (صحف ومطبوعات وفضائيات ومنابر للتواصل الاجتماعي و..) وسرعان ما تقهقرت أم الدنيا (مصر) والعراق وبلاد الشام (مراكز التمدن التقليدية في المنطقة) أمام الغزوة الظافرة لقوافل البدو الجدد وراياتهم المسكونة بحلم استرداد الفردوس المفقود (الخلافة) والذي تحقق لمدة قصيرة داخل مايكروويف داعش على الولايات التي استباحتها في العراق والشام. ما يحصل لنا من نكبات وكوارث على شتى الجبهات، لم يكن بمعزل عن الأدوار التي لعبها هذا “الإعلام” في ديمومة مناخات الغيبوبة والاغتراب عن التحديات والهموم الواقعية لعالم اليوم.
لا نحتاج الى عرض جرد واسع عن هذه الشبكة الاخطبوطية المهيمنة على وسائل الإعلام المحلية، الورقية منها أم السمعبصرية ومواقع التواصل الاجتماعي، ونوع القوى والمصالح المتخلفة التي تموله وتضبط إيقاعاته المتنافرة وحاجات عصرها وتحدياته الواقعية؛ يكفي الوقوف قليلاً عند ما يعرف بـ “إعلام الدولة” والممول من الموازنة العامة، لندرك حجم الضياع والاغتراب الذي يعيشه هذا “الإعلام” الرسمي والذي وجد من أجل الدفاع عن التجربة الديمقراطية الفتية بعد عقود من الهيمنة المطلقة للإعلام التوليتاري للنظام المباد. وكما أهدرت الكثير من الفرص والإمكانات منذ لحظة “التغيير” ربيع العام 2003 في شتى الحقول المادية والمعنوية، فرط “أولي أمر” التحولات الديمقراطية بفرصة بناء مؤسسات إعلامية رصينة تعتمد التوجهات المفترضة للنظام الجديد، لصالح هلوسات المحاصصة و”المكونات” و”المربعات” وغير ذلك من قاموس الفتح الديمقراطي المبين..!
فشل ذريع رافقنا في هذا الميدان الأشد تأثيراً في توجيه مصائر الشعوب والأمم (الإعلام)، والسبب لايعود فقط الى من تلقف مقاليد أمور “الغنيمة الأزلية” رغم دورهم الحاسم في هذا المجال، بل الى الغالبية العظمى من المتنطعين لمهنة “الإعلام” بوصفها وسيلة للعيش والارتزاق، كل موهبتهم تتركز في رشاقتهم لنقل عدتهم من كتف الى كتف آخر ووفقاً للشعار العتيد (الياخذ أمي يصير عمي)، لنجد أنفسنا وبعد كل هذه التجارب والكوارث المريرة عاجزون عن امتلاك منبر إعلامي واحد يضع نصب عينيه مهمة النهوض بالعراق على أساس راسخ من الديمقراطية والتعددية والحريات. لقد تم توريطنا من دون أدنى مسؤولية من عقل وضمير، بصراعات التشرذم والتخلف نيابة عن عقائد وسرديات وثارات القرن السابع الهجري المهيمنة على سياسات دول الجوار، وهذا ما يمكن التعرف عليه بيسر في كل ما يصدر عن مطبوعاتنا ووسائل إعلامنا بكل أشكالها وعناوينها المختلفة، ولن تجدي نفعاً كل هذه المساحيق من المفردات والتسميات الوطنية والحداثوية المرافقة لها، من تغطية ملامحها ومقاصدها الفعلية. علينا أن ندرك حقيقة الدور الذي لعبه مثل هذا “الإعلام” في الكوارث التي لن يكون وباء داعش نهايتها، هذا “الإعلام” البعيد كل البعد عن الوظائف السامية التي عرفناها عن هذا النشاط المعرفي المقرون غالباً بالشجاعة والإيثار والوعي العميق لحاجات العصر في الحداثة والتعددية والحريات..
جمال جصاني
إعلام مدفوع الثمن
التعليقات مغلقة