الفواجعُ مثلُ الغيوم تُحقق مُرادَها وتمضي

قيس مجيد المولى

حاول جمع الأزهار التي على الوسادة زهرة بعدَ زهرة، برغم أنه قد بدأ الدخول في عالم سباته، بذل جهدا للمقاومة ومضى وبصوت متقطع لأبد للإنسان من المقاومة وراحَ يتذكر: الجلسة اليومية والمعتادة في قصر الإخيضر والتي يصلها دائما عبر باصات (الكرادة داخل ) ، بعد أن يقطع مشياً زقاقاً واحداً يصله بـ (أبي نؤاس ) ،وكالعادة أيضا تنتظره شلة الليل الذين سبقوه الحضور بساعتين في الأقل ، وكالعادة أيضا يُحييه النادلُ (صابر ) وهو يرد على تحيةِ صابر بــ (إزيك – أخبارك – عامل إيه ) ويضحكا سويه ، ثم يُحيي الشلة بصوت متجهم ورأس يدور من ليلة البارحة ،لكنه ما أن يجلس كرسيّه يصمت صمتَ الأموات الى أن تنتهي بيانات الحرب التي تذاع عبر التلفاز السّاعة الثامنة مساء كل يوم ،بيانات تشير الى مايسمى بالفعاليات العسكرية والتي تحصد أرواح الطرفين المتحاربين ومشاهدهم المروعة وهم قتلى قرب الأنهر أو في الجبال أو في التلال والهضاب ماسكين أيادي بعضهم بالبعض أو مستلقين على ظهورهم ومحدقين بعيونهم نحو نقطة في السَّماء ،،نادى على صابر أن يسرع بمشروبه وبمازته وبإناء الثلج ولم يطلب ماءاً هذه المرة ،قال الذي على يمينه ( من أين أفتح الماضي ) ،والذي على يساره بعد أن كرع كأسه دفعة واحدة ( لاسبيل للخلاص إلا بالتنجيم ) ،في حين بدأت ثمار صفراء اللون تتساقط من الأشجار وتنشر رائحتها على الجلاس ليتنفس الجميع نفساً واحداً وعميقاً وكأنهم احتشدوا في رئة واحدة، كانت (سراب ) زميلته في المرحلة الثالثة في كلية الأداب قد أكملت إنكليزيتها وكتبت اليه بالإنكليزية :
(الفواجعُ مثل الغيوم تحقق مرادها وتمضي )، بعد ذلك وضعت وريقتها البيضاء في كتاب رامبو وأهدته إياه، كان النص قابلا للتفسير من البداية والتفسير من النهاية الى البداية لذلك بعد ورود هذه الوريقة اليه تغير مزاجه كليا من الصعود في باص (كرادة داخل ) الى المشي على الأقدام من مقهى حسن عجمي الى قصر الإخيضر وتغير مزاجه في الحضور وفي الجلوس على الكرسي الذي لا يواجه التلفاز، لم يسأله أحد من شلته عن حضوره المبكر، ولاإستبداله لكرسيه وموضعه ، ولا لعدم إنتظاره لبيانات الحرب، ولا عن تساقط الثمار الصفراء، حتى أنه نسيّ إسم النادل وأسم مشروبه المعتاد وطلباته الأخرى ومزاحه اليومي مع صابر الذي نسيّ اسمه، أخرج الوريقة الصغيرة وكتب خلفها :
أنظرُ الليلة
الليلة الوحيدة
التي أنظر الى الدب الكبير
وفي سروالي اليتيم
ثقب عريض، مرة أخرى تذكرَ ما فوق الوسادة ومد يديه لجمعها زهرة بعد زهرة ولكن يديه إرتطمتا بأناء الثلج وبكأسه التي لم يشربها بعد وهو بين ذاكرتين ذاكرة الخروج من الحرب على قيد الحياة، وذاكرة (سراب) التي شبهها بــ (فيرمينا دازا) حين تزوجها الدكتور أوربينو وكانت مولعة بالأزهار الأستوائية والحيوانات الداجنة ، وتذكر أنه أنهى (مائة عام من العزلة) عندما كف حارسُ المدينة من تكرار صفيره في أخر جولة له بين الأزقة ، المهم أنه أنهى الرواية في ذلك الوقت في صفحتها 423 وخطَ خطاً قاتماً بالقلم الرصاص تحت آخر عبارة تقول (والى متى تظن بأننا نستطع الإستمرار في هذا الذهاب والإياب الملعون )، إستُبدّلت الطاولة بأخرى وأعيد ترتيب الأقداح والقناني ومكملات النشوة الروحية ، ومن مصدر ما غير موحى إليه طرق الإلهام مخيلات الجلاس للتشبث بحلم البقاء الأبدي بالضد من الزوال المحتوم وبحث الجالس الى اليمين في حقيبته ليقرأ لهم من(عاشقاتي الصغيرات) ثم يلحقها بمقطوعة عن(أغنية حب باريسية ) وهو الآخر قد وجد شطآن الذهب وهي تلتمس الغوث من الأكف الصخرية والسواد الحالك والدم الجاف، وحين سمع الجليس الثالث بالدم الجاف ،توسل بالرياح أن لاتهز أشجار النارنج ،ولاتقلب الموائد لأن الفجر سيكون رماديا ، ونحن لانعرف من نَتّهِم . كانت المعارك قد وصلت ذروتها بين المتقاتلين في احد نقاط التماس في القاطع الجنوبي، وكان التُراب والرّمادُ ، ترابُ الأرض و رمادُ المعدات المحترقة قد غطى المنافذ وأصبحت طرق السلامة مجرد متاهات توصل طوعيا للموت ،أما الوحيد الذي بقي يحوم في مستنقع السّماء هو ذلك الطائر الرمادي الذي لايحمل سوى الأخبار المشؤومة والتبشير بالكوارث :
أيها المتقاتلون
إضطررت للرحيل عنكم
دماءكم ملأت منقاري
وأرواحكم أثقلت جناحي
ولم أعد قادرا على الطيران، في العراء وضعت حقائب القتلى بعضها على بعض وبدأ ذووهم بالتعرف على أبنائهم من خلال الحقائب إذ لم تعد الجثث قابلة للتعريف ،حقائب مختلفة الألوان لكن أغلبها كان باللون الأسود ،من الملابس الداخلية التي في الحقيبة تم التأكد من مقتل هذا ومن قنينة العطور من ذاك القتيل ومن فرشاة الأسنان وماكنة الحلاقة وغيرها من الأدوات تم التأكد وباليقين على مابقي من القتلى ، ولم تبق على الأرض غير الحقيبة التي فتحها العريف الطبي ووجد بداخلها بعض الرسائل الغرامية ومائة عام من العزلة، رُقِمَ أصحاب الحقائب بمجهولي الهوية ، ودفنت أشياءهم بدلا عنهم في مقبرة دار السلام قريبا من البحر الذي فجاءة إرتفعت مناسيبه وقريبا من الشجرة الوحيدة التي في المقبرة التي خلدت تحتها تلك المرأة التي سميت على إسم (فيرمينا دازا ) حين تزوجها الدكتور أوربينو وكانت مولعة بالأزهار الأستوائية والحيوانات الداجنة ، في الوقت ذاته كتب على شاهدةِ قبرٍ مجاور:
سأعيد قراءة الرسائل السابقة
وانتظر الرسائل التي تأتيني
فالفواجع مثل الغيوم
تحقق مرادها
وتمضي
q.poem@yahoo.com

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة