“اولاد القابلات” والمدلول الفني والدرامي

علوان السلمان

  النص القصصي ..نتاج ابداعي، وخلق فني، وسيلته اللغة الايحائية التعبيرية.. وموضوعه الحياة بكل موجوداتها وتناقضاتها وصورها، لتحقيق غايته النابشة للخزانة الفكرية لمستهلكها من جهة ومن جهة اخرى محققة المتعة الجمالية والنفسية والمنفعة الفكرية.. باسلوب مليء بالإثارة والتساؤل. كونه ضرب من التقنية الفنية في القدرة على تقديم بنية شمولية في عالم السرد الذي يقتضي وعيا مكتنزا بحس شعوري مصور للحظة المصحوبة بعناصر انفعالية مع قدرة على التخييل الابداعي واستحضار عناصر التذكر والاستذكار التي تصب في خلق الاحداث الاجتماعية والاغتراب الداخلي باسلوب جاذب ولغة تنم عن خيال ممزوج بالواقع.

   وباستدعاء المجموعة القصصية(اولاد القابلات)..التي افرزت عوالمها النصية ذهنية القاص خالد ناجي ناصر ونسجتها انامله بإتقان ومقدرة فنية. واسهم الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق في نشرها وانتشارها/2018..كونها نصوصا تتكئ على عنصرين فنيين اساسيين هما: الاداء الفني (المبنى).. والموضوع الانساني(المعنى)..معتمدا اللغة اليومية والالفاظ ذات القدرة الايحائية في التعبير الذي يستدعي المستهلك(المتلقي) للنفاذ الى ما ورائها، ابتداء من الدلالة السيميائية والايقونة العنوانية المستلة من بين السطور بفونيميها المعانقان العنوانات الفرعية المتفاوتة في محمولاتها النصية فمنها ما يحيل الى العمق التاريخي ومنها ما يخوض في الحراك المجتمعي وهناك المشبع بالرمز منها..

(كدنا نصل في تلك اللحظة التي شارفنا فيها على المقبرة..خرج شخص منها يركض،رمى معولا عريضا كان بيده، عرفناه انه صديق، ناديناه لكنه مر قريبا منا مسرعا بالكاد يتنفس،ثم خرج آخران يقتفيان أثر الاول وحالهما كحاله هلعا واضطرابا، وقد عرفت احدهما والآخر تعرف عليه صاحبي الذي بادلني نظرات مغزاها سؤال: هل سبقنا شباب الحيين الى ما عزمنا عليه؟ تسمرنا في مكاننا حائرين للحظات،فخرجت مجموعة راكضة يصدم احدهم الآخر استعجالا وارتباكا،لكنهم في النهاية انتظموا في طريق العودة كل منهم يحث الآخرين على الهرب، ميزنا اكثرهم وكان بينهم ولد مقرب فسددنا عليه الطريق وسألناه عن الامر، كان يلهث ويرتعد خائفا حد الموت، واشار اولا بيده نحو المقبرة ثم قال بكلمات متقطعة: الآباء.. آباؤنا يحتلون المقبرة يجلسون على شواهد قبورهم).. ص43ـ ص44..

  فالتكنيك السردي للنص جاء وفق مدلول فني.. تقني تكمن جماليته في اطار الصورة المشهدية الكلية التي تتحرك فيها شخوصه والاحداث التي تقررها المسارات الحياتية.، اضافة الى محاولات المنتج(السارد) الافادة من عنصر تداخل الازمان، فضلا عن انه يؤسس مشهده السردي القائم على الفنتازيا التي هي خيالا رؤيويا على حد تعبير دانتي، باعتماد الشخصية ذات الطبيعة الشائكة في عمقها النفسي،  المليئة بطموحات الذات الانسانية الحالمة التي يكتشفها المنتج من خلال الحوار الداخلي الذي يتم الانتقال اليه بتلقائية ممتزجة والسرد متجاوزا المسافات الفاصلة بين الازمان(زمن السرد وزمن القص)..كون الشخصية تروي الحدث لحظة وقوعه.

(قررت ان استقل أول قطار سيتحرك،لم يعد الزحام كما كان في تلك الايام الخوالي، وصلت الى قاطع التذاكر، سألني الى أين؟ قلت: لا ادري. رفع بصره نحوي بسرعة، لكنه تبسم حين رآني كأنه وجد في وجهي ما فسر استغرابه،عاد الى تذاكره الصغيرة، كتب شيئا على احداهما ثم مهرها ليدفعها نحوي،أخذت الوريقة الصغيرة فوجدت انه كتب عليها(مدفوعة الثمن) هززت راسي له شاكرا فهز هو راسه مرة واحدة ثم نظر الى الذي يقف بعدي.

رتابة الصوت الذي تعود عليه ذهني بعد مدة من انطلاق القطار ساعدتْ على شرودي بعيدا حيث قريتنا الصغيرة الوادعة،الضاجة بالحكايات المتصلة كسلاسل من ماء، لكن حكايتي هي الاهم بالنسبة لي، قفزت الى ذهني بسرعة فأنستني مدة لا أعرف مقدارها،قطاري السائر ببطء وثقة..) ص119 ـ ص120..

  فالقاص يقيم صراعا عبر حوار منولوجي..ذاتي..تأملي مع الزمن الذي يرمز له(القطار)بخطاب يتداخل فيه السرد واللغة اليومية الموحية ببنية درامية متنامية.. اضافة الى انه يعالج شكلا من اشكال الاسقاط النفسي،  مع اضفاء مسحة من الترميز وهو يصور هواجس البطل الداخلية..فضلا عن توظيف عنصر الحركة الذي يشكل احد معطيات المستوى الحسي للغة القاص الذي وظف الاشياء بطريقة موحية اسهمت في تطوير البناء الدرامي للسرد. اذ توظيف الجزئيات للكشف عن دخيلة الشخصية وتطوير الحدث وهو يعرض الظواهر الاجتماعية مع تركيزه على الجوانب المعتمة في الانسان الذي يبرز كوحدة اساسية بتكنيك يكشف عن نفسه من خلال رحلته مع شخوصه وعوالمها..عبر نص يحمل دلالاته الايحائية ويعبر عما يختمر داخل الذات القلقة التي تصارع الغربة المكانية..فضلا عن ان السارد يعبر عن مضامينه السردية من خلال وعي الشخصية بحكم امتلاكه رؤية واعية تتابع الاحداث بترتيب زمكاني مع تكثيف الاحساس في مشاهد مركبة داخل بنية نصية تقوم على الوعي مع قوة العاطفة..

 وبذلك قدم المنتج(السارد) نصوصا سردية استمدت مضامينها من مجتمع يتسم بالحرك، مع اعتماد تقنيات السرد(الاستباق والاسترجاع والتذكر..)..والتي توفر لحظات التوهج القائمة على عنصري الاداء الفني والموضوعي الانساني، معتمدا اللغة اليومية كواسطة للتشخيص، مع تركيز على الجوانب المعتمة في الانسان.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة