عادة ما تنهض البلدان والمدن بعد تعرضها للكوارث والمحن ولا سيما بعد الحروب الداخلية منها والخارجية، حيث تتحول دروسها الى معابر صوب مستقبل آخر تؤسس فيه شروط وضمانات لحياة مستقرة وآمنة، ومثل هذا المشوار يمر عبر عزل ومحاسبة القوى والمصالح والعقائد التي اشعلت تلك الحرائق والحروب. ومدينة عريقة مثل الموصل كانت جديرة بمثل ذلك الانعطاف والتحول للنهوض مجدداً لتسترد ماهي جديرة به من مكانة ودور في صناعة عراق ما بعد الدكتاتورية وداعش. غير ان تلك الآمال والتطلعات المشروعة لم تجد من يلتفت اليها، وسط المناخات والاصطفافات والتجاذبات التي أعقبت تحرير الارض من سيطرة عصابات داعش، والتي نشاهدها اليوم وهي تحكم قبضتها على الموصل، وبالاستناد الى القوى والشخصيات والعقليات نفسها، التي أدارت الموصل عشية سقوطها صيف العام 2014، وما فزعة ازاحة محافظها السابق العاكوب بعد كارثة العبارة وتسليم امر المدينة لخلية الازمة ومن ثم الى محافظ جديد (منصور المرعيد) عبر صفقة تمت داخل مجلس المحافظة، واثارت حولها الكثير من اللغط والتساؤلات وشرعت الابواب أمام أزمة جديدة وحزمة من السيناريوهات المغايرة تماماً، لوعود عودة النازحين من أهلها وتامين الشروط والتشريعات اللازمة لانطلاق مشاريع التنمية والبناء.
ما يجري من صراع للمصالح والارادات السياسية في ثاني المدن العراقية بعد العاصمة بغداد، يعكس التوجهات والغايات الفعلية للقوى والكتل المهيمنة، واصرارها على وضع منافعها الفئوية الضيقة فوق المصالح العليا للوطن والناس، ويؤشر ايضاً الى اطمئنان هذه الكتل من حالة الهوان والانكسار السائدة لدى أكثرية سكانها من الضحايا والمتضررين الذين عصفت بهم الكوارث والاهوال وجردتهم من كل امكانية لتنظيم قواهم ووعي ما جرى لهم ومن ثم العمل لاسترداد حقوقهم المشروعة. لا يحتاج المتابع المنصف لما يجري في الموصل ومثلها في البصرة وغيرها من المناطق والمحافظات الدسمة، الى الاستعانة بدراسات وتقارير ومعطيات وغير ذلك من ادلة ووثائق كي يتعرف على ما يحصل من فضائح، فالقوم لا يخفون تجليات شراهتهم واطماعهم، فهم قد ارتقوا بمبدأ “الشفافية” الى اطواراً لم تصل الى ضفافها منظمة الشفافية العالمية نفسها، وما اتهاماتهم المتبادلة لبعضهم البعض الآخر علناً وعبر وسائل الاعلام المختلفة، حول بيع وشراء المناصب الا عينة واحدة مما يحصل في هذا المجال.
ما الذي يمكن قراءته لا من المشهد الحالي للموصل بل الى ما قبل ذلك؛ أي سقوطها بيد عصابات داعش وما تعيشه بعد عامين من زوال ذلك الاحتلال الهمجي الغاشم..؟ الجواب باختصار شديد؛ موصل بلا حول ولا قوة. فالموصل التي نعني هي المدينة العريقة الواعدة بملاكاتها الصناعية والعلمية والاقتصادية، والتي تزدهر الحياة فيها عبر حماية التطور الطبيعي لمهن وصنايع أهلها وما يرافق ذلك من قيم مدنية وحضارية وتقاليد لا تنسجم وما استباحتها من عقائد وسرديات وفوضى. ان لحظة سقوط الموصل بيد ممثلي الهمجية والاجرام ومن ثم عجزها الحالي عن النهوض، يشير الى وجود خلل بنيوي يمنع وصول اهلها الى علل كل ذلك العجز والهوان مقابل ما يعصف بهذه المدينة من كوارث واهوال. ما يجري فيها من اعادة تدوير لكل ما لا ينسجم وحاجاتها الواقعية؛ يهدد بضياع فرصة اعادة بناءها وانطلاق ما رسم لها من خطط ومشاريع ذات طابع اقليمي ودولي، لأن الاستثمارات لا تغامر في مدينة لا حول لها ولا قوة…
جمال جصاني