نازك الملائكة وشعرها كما عرفتهما

ملهم الملائكة

كتابتي عن شاعرة كبرى رائدة مثل نازك تستوجب حذري البالغ في أن لا أجرح ذكراها، فهي كانت حريصة على أن لا تجرح أحدا، وتستوجب الكتابة أن استحضر من ذاكرتي صوراً وقصصاً ومشاهد جاوز عمرها نصف قرن، وأن استعيد لحظات هانئة عذبة قضيتها مع الشاعرة المرهفة وربما اختلطت في ذاكرتي مع أخيلة قصائدها الثرة البليغة.
أن أكتب عن نازك وهي بمنزلة أمي وقد منحتني اسمي «ملهم» ببرقية عبر القارات في زمن قديم هو تحدٍ يضعني أمام نفسي وأمام ذكراها، فشعرُها ورسائلُها وصورها التي تزدحم بها مكتبتي في ألمانيا هي التي يهتم لها الناس، أما في ذاكرتي فتتزاحم تفاصيل حياتها الصغيرة الكبيرة مع شظايا القصائد والصور.
والأوّلى في هذه الحالة أن يكتب عنها نجلها الوحيد الدكتور «البراق عبد الهادي محبوبة»، لكنه صامتٌ منذ سنوات طوال، ومعتكفٌ ناءٍ عن كل من يعرفونه وعن منافذ الاعلام وصفحاته، وبذا أبيح لنفسي أن أبوح ببعض ما عرفته عنها، مع الشعر وخارجه.
صورة أولى …القمر الحبيس والقمر الحر!
الزمان: صيف خمسينيات القرن العشرين
المكان: بيت صادق الملائكة (والد نازك وهو جدي) بشارع أبو قلام بالكرادة الشرقية ببغداد.
المناسبة: قمر ذات ليلة صيف، تأملتُه مع نازك فوق سطح البيت بليل بغداد الصيفي الندي، وزاحمتُها بالأسئلة عنه، فقررت أن تروي لي عنه ما لم أسمعه.
والتقينا في اليوم التالي جالسين على سريرها الذي تغطيه ملاءة مخملية بلون بنفسجي، فروت لي نازك، وكنت في الرابعة من عمري قصة قمر الليل. القصة لشدة غرابتها وعذوبتها المفرطة أدهشتني، فعلقت في ذاكرتي مثل نقش أبدي لا تسرقه الذكريات الأخرى.
كل ليلة يشرق فيها القمر على مرج تسرح فيه أغنام راعٍ فتي كانت بالنسبة له شوق جديد لهذا الفضي اللامع المضيء، فالفتى عاشقٌ للقمر، ولا امرأة في حياته ولا أهل فيجاذبونه ذلك العشق.
ساقه شوقه المستوحد للقمر إلى باحة التمني، فكان يتحسر كلما تطلع فيه بأمنية أن يمتلكه. ذات ليلة، طلع له جنيّ غامض من غار في المرج وسأله عن كنه حزنه، فباح له بقصة حبه المتيم، وعاد الجني الظريف ليسأله عن سر رغبته في امتلاك القمر، فأجاب الراعي «أريده خِلّاً لي، يضيء لي ليل كوخي المعتم، ويسلي خواطر ليلي، ويختفي في النهار حين أخرج إلى المراعي، ليظهر ثانية حين أعود، وهكذا سيكون سمير ليلي إلى الأبد».
طال الجني الظريف القمر، ومنحه للصبي، فوضعه الأخير على رف في كوخه الصغير وغمر نوره الفضي كل شيء. وعاش الراعي سعيدأ بقمره بضعة أيام، حتى بدأ الناس يتذمرون، ويتقولون شاكين من أن لصاً سرق قمر لياليهم وتركهم في عتمة طاعنة. وانتابه رعب كبير حين بدأ الناس يتظاهرون مطالبين بعودة القمر، وتنبّه الفتى الراعي وهو يراقب التظاهرات إلى نور يغمر أفقاً جنوب مكان التظاهرة، فاتجه إلى مصدر النور، وهاله أنّ نور القمر الحبيس في بيته يتسرب من كل ظلفة في الكوخ، فقرر على عجل أن يدفن القمر كي لا يتسرب ظله، وفعل ذلك مسرعاً فاختفى القمر وانطفأ نوره.
بعد أيام انتبه الراعي إلى نبتة تنمو بسرعة حيث دفن القمر، وسقى النبتة مدهوشاً فكبرت بعد اسابيع، وباتت شجرة ثمارها أقمار فضية مشرقة. إنها شجرة القمر، لكنّ ذلك لم يحل مشكلته فالناس تريد القمر النير وتطالب به، وعاد له الجني لينقذه من محنته، ونصحه برفق أن يُطلق سراح القمر، فالنور ملك للجميع ولا يصح أن يكون ملكاً له. أطلق الفتى سراح القمر، وبقي يتمتع بجنى شجرته، فعاش سعيدا مع أقمار فضية كثيرة.
ذهلت للقصة كما روتها لي نازك، وحين كبرت عرفتُ أنها قصة ديوانها الموسوم «شجرة القمر» ما ساقني إلى قراءته بإمعان، فقرأت في مقدمته أصل الحكاية بقلم نازك نفسها، فقد نسبت القصة نفسها إلى بنت عمتها الصغيرة ميسون، ووضعت لها تاريخاً عام 1952. وهذا يعني قبل ولادتي. إذن فقد روت نازك لي قصة شجرة القمر، بعد أن كانت قد حكتها لميسون والتي ألهمتها كتابة قصيدة شجرة القمر، وقد تضمنها ديوانها المعروف بشجرة القمر الذي صدر عن دار العودة عام 1968.

ثمار شجرة القمر… حرة وشطرية
هذا الديوان برغم تاريخه المتأخر عن إطلاق نازك لتيار الشعر الحر، ضمّ سبع قصائد من هذا الشعر فحسب، وتفسّر الشاعرة سبب ذلك بأنّ الشعراء الذين اتبعوا مدرسة الشعر الحر تركوا الأوزان الشعرية العربية وهجروها كأنهم أعداء لها مقتصرين في قصائدهم على بحور الشعر الحر الخمسة، وهذا ما دفعها الإعلان عملياً عن عودتها إلى قصائد التفعيلة لتزيل اللبس عن فهم بعض من عاصروها من الشعراء.
وتذكّر الشاعرة بأنّ دواوينها طالما احتوت على قصائد شطرية علاوة على قصائد الشعر الحر، ومشيرة إلى أنّ ديوانها الرائد «شظايا ورماد» الصادر عام 1949 الذي يعد ايذانا بولادة نوع أدبي جديد، لم يضم سوى عشر قصائد حرة، أما ديوانها «قرارة الموجة» الصادر عام 1957 فأقتصر على تسع قصائد من الشعر الحر. وتفسر نازك كل ذلك بالقول: « إنني أولاً أحب الشعر العربي ولا أطيق أن يبتعد عصرنا عن أوزانه العذبة الجميلة، ثم أنّ الشعر الحر كما بيّنت في كتابي- قضايا الشعر المعاصر- يملك عيوباً واضحة أبرزها الرتابة والتدفق والمدى المحدود، وقد ظهرت هذه العيوب في أغلب شعر شعراء هذا اللون. وهذا حاصل أيضاً في الشطرين فإنّ له مزاياً وله عيوب».
ولعل من الغرابة بمكان أن تتنبأ رائدة الشعر الحر في عام 1967 بتراجع هذا التيار «إني على يقين من أنّ تيار الشعر الحر سيتوقف في يوم غير بعيد، وسيرجع الشعراء إلى الأوزان الشطرية»، وتمضي إلى القول كأنها تعتذر للمدرسة الجديدة: « ليس معنى هذا أن الشعر الحر سيموت وإنما سيبقى قائما يستعمله الشاعر لبعض أغراضه ومقاصده من دون أن يتعصب له ويترك الأوزان العربية الجميلة».

من رسائل نازك الملائكة
غير هذا وذاك، فالشاعرة الناقدة نازك الملائكة قد تركت مبيضات رسائل ادبية لشخصيات مهمة عبر العالم، بينها الدكتور سهيل ادريس، والناقد الفذ إحسان عباس، والشاعر الروائي الأميركي وليم فولكنر، والملكة دينا ملكة الأردن في عام 1957 بصفتها الزوجة الأولى للمك حسين بن طلال، والتي انجبت منه الأميرة عالية، والناقد إبراهيم العريض، والشاعرة فدوى طوقان، والناقد الشاعر عبد اللطيف شرارة، وغيرهم كثر. وأعتزم أن أنشر هذه الرسائل بعد حجب الرسائل ذات الطابع الشخصي منها، والحفاظ على تلك التي تُغني الوعي والسليقة والشعر والأدب، وقد سبقتني لذلك الأديبة الراحلة إحسان الملائكة فنشرت بعضاً من تلك الرسائل في صحيفة المدى البغدادية عامي 2007 و2008.
استوقفتني من الرسائل، تلك الرسالة الجوابية التي كتبتها للناقد الأديب إحسان عباس في 4.9.1953 واقتطعُ منها مقطعاً يسلط الضوء بوضوح على شخصية نازك متعددة المواهب» لقد وقفت طويلاً عند قولك في معرض حديثك الرقيق عن مقالاتي الأخيرة (خشيت عليكِ لنفاذ رأيك أن تعودي ناقدة، وأن تتحيف هذه القدرة الواعية من جناحي الشعر الرقيق). فالحق إنني لا أعرف في نفسي حدوداً تفصل بين الشعر والنقد، ومنذ صباي كانّ حبي للثاني لا يقل عن حبي للأول. ثم أنّ انتاج مقال في النقد الأدبي لا يختلف في جوهره عن كتابة قصيدة، فالأديب في الحالتين يمر بحالة من الحماسة والتدفق واندفاع الصور والأفكار على فرق بين طبيعة الأثرين».
وهكذا فإنّ الكتب النقدية الثلاثة التي وضعتها نازك (قضايا الشعر المعاصر) و (الصومعة والشرفة الحمراء) و (سايكولوجية الشعر ومقالات أخرى) بقيت مشعلاً متوهجاً يلهم الأدباء والشعراء والكتاب في فهم أغراض الشعر. ونازك في النهاية ما فتئت تحمل مشعلاً ينير الدرب للأدباء ولا تحمل صولجاناً يعمم أحكام الأدب على الآخرين، طبقا لنظرية غاردنر في نقد الأدب بكتابه القيم (The Sceptre And The Torch ) الصادر عام 1953 .

* ملهم الملائكة، واسمي الأصلي، ملهم الشعلان، وقد حملت لقب الملائكة (وهو لقب والدتي الأديبة الراحلة إحسان الملائكة)، منذ تسعينيات القرن العشرين لأسباب خاصة، ونشرت تحت هذا اللقب تسعة كتب، فلما امتد بي الزمن رفقة الاسم الصحفي، رجّحت أن اتخذه اسما أُعرفُ به في عصر الإعلام الفضائي والاذاعي، والانترنت والإعلام الرقمي والصحافة والكتابة ومنصات التواصل الاجتماعي. والشاعرة نازك الملائكة هي في النهاية خالتي وليست عمتي كما يتوهم البعض.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة