إيناس البدران
لا شيء يأتي من الفراغ .. هكذا تقول الحكمة الإغريقية ، وما من أمر يحدث صدفة في الحياة وإن ظنناه كذلك ، فحياتنا مسارات لخطوط تلتقي تتقاطع تتباعد لتعود فتتوازى كخارطة رسمت بيد القدر كأننا نهرب فيها من أقدارنا الى أقدارنا .
ولأن الكتابة قدري الجميل فقد وجدتني في مصادفة عجيبة طيبة مشدودة بحبل سري الى قامة ادبية سامقة وبدر منير في سماء الشعر العربي الحديث الا وهي المبدعة المجددة الرائدة نازك الملائكة .. احمل صليبها وأدفع بصخرة أوجاعها فوق مفازات إبداعها لأشاركها مخاضاتها الفكرية وصولا الى حلمها العلوي ، ولتستحوذ سيرتها بأدق تفاصيلها على اهتمامي فتصير شغلي الشاغل ، فأقترح على صديقتي نعيمة مجيد فكرة تأسيس منتدى يحمل اسم مبدعتنا الملائكة ، لأتولى شرف مسؤولية ادارة المنتدى لأكثر من عقد من الزمان . ذات الصدفة الطيبة هي التي القت بين يدي بكنز يومياتها عن طريق ابن اختها أنس الملائكة لأكون واحدة من بين قلائل نالوا امتياز حمل مفتاح احد خزائن رحلتها الروحية .
ما بين الموت والميلاد برزخ حياة ممتد يختصر احيانا ببضع سطور يسترجع حفنة ذكريات كالحلم ، تبدأ الملائكة يومياتها التي وصفتها بأنها مسودة اولى بعنوان « حياتي الروحية « وتكتب في أعلى الصفحة تاريخ ميلادها 23 آب 1922 وتاريخ بدء مشروعها الأدبي الذي لم يكتمل « بديء به في الكويت 4 شوال 1395 الموافق 9 تشرين الاول 1975 « لتكتب « هذا مجرد استجماع لذاكرتي ، وكتابة لأحداث مقدمة لترتيبها وصياغتها فيما بعد صياغة ادبية « لتسترسل في سرد الأحداث والتطرق الى شخوص تركت في نفسها اثرا وحركت في نفسها مشاعر شتى ، وكأي مبدع مثقف كانت تتحدى بعقلها السطحية وتهاجم التكلس الفكري والأفكار المكررة وتحلم بعالم افضل يتسع للجميع وتدافع عن قيم انسانية نبيلة لتصطدم بجدار واقع قاس كئيب .
اذ كتبت في يومياتها ما يعكس حيرتها وخيبة أملها قائلة « كنت احس في أعماقي أنني اريد عالما مثاليا نظيفا فيه رحمة وتعاون وعمل وجهاد وعلم وفكر لكن عالمي غامض لا اعرف بالضبط كيف اصل اليه لأنني معذبة والخيالات تلعب بي « .
اريد وانفر أي جنون حياتي أي صراع رهيب
لماذا أغني لماذا اعيش ومن ذا اصارعه ومن ذا يجب ؟
تتحدث الملائكة في مذكراتها عن شكها وصراعاتها النفسية التي رافقت كتابة وصدور مجموعتها الشعرية ( شظايا ورماد ) قائلة « اشعر اني في صراع وأن حياتي لا هدف لها ، كنت اعيش بعقلي بالحبيب الذي احبني وإتفقنا على الزواج يسمع مني هذه الكلمات التي ضمّنتها قصيدة بعنوان الغاز :
دعني في صمتي
لا تسأل عن الغاز سكوني
لا تبحث عن اغواري
لا تسأل اني احيانا لغز مبهم
روحي لا تعشق أن تحيا مثل الناس
حتى حبك يؤذيني
تضمنت اليوميات رؤى وأبعادا فلسفية معززة بالومضات الرؤيوية وكشف عن تساؤلات الوجود وماهيّة رؤية الشاعرة الكونية ، وهو ما يستحق قراءات اخرى متعددة الوجوه ، بالتأكيد ان هذه السطور تسلط الضوء على جانب مهم من شخصية هذه الشاعرة الرائدة ، تلك الشخصية المثيرة للجدل والمحاطة بهالة من الغموض الذي اسهم بشكل من الأشكال في تكوين شخصيتها الشعرية والوجدانية وأحاطها بكم مثير من التساؤلات ، هي بالتأكيد شخصية استثنائية مميزة وعقلية غير اعتيادية دعمت موهبتها بالثقافة الأدبية والتخصص الاكاديمي ، تلك هي العوامل العديدة التي اهلتها لمهام الريادة التي لم تأت صدفة ولم تكن حدثا او ظاهرة عابرة بل فتح جديد اسهمت فيه بغزارة ابداعية مع زملائها الرواد .. السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري .
وكنت قد استضفت في اتحاد الأدباء وباسم منتدى نازك الملائكة عام 2010 السيدة احسان الملائكة شقيقة الشاعرة الراحلة نازك الملائكة وهي كاتبة وباحثة ومترجمة للحديث عن ذكرياتها مع شقيقتها ومما ذكرته ان نازك كانت شديدة التعلق ببيتهم القديم في محلة العاقولية ببغداد بغرفه الواسعة وأسمائها الغريبة « الآسي ، الجامخانه ، الشناشيل ، السرداب « والأجنحة المحيطة بباحة الدار التي تتوسطها اشجار باسقات وبئر عميقة في فوهتها دلو يسحب بحبل ليخرج طافحا بماء مالح ، اما ماء الشرب فكان يجلب عن طريق السقا من النهر اذ لم تكن دائرة اسالة الماء قد اسست بعد آنذاك ، وتطرقت السيدة احسان الى لقب الملائكة وكيف اطلقه عليهم جارهم الشاعر عبد الباقي العمري لهدوئهم الشديد وعدم صدور اية ضجة من دارهم التي كان يقطنها العديد من افراد اسرتها كبارا وصغارا ، حينها تساءل هل اهل هذه الدار من الملائكة ؟ .
وتسترسل في سرد ذكرياتها مع اختها نازك التي سبقتها للدنيا بعامين فتقول « وقعت في سن مبكرة تحت تأثير نازك وسحر شخصيتها حتى اصبحت لي الانموذج والمثل الأعلى ، كانت رقيقة المشاعر حاضرة الوجدان مرهفة الحس يشع تأثيرها العذب الى المحيطين بها حتى تغلغل في عقلي وطريقة تفكيري لدرجة ان بعض معارفنا كانوا ينادوني بإسمها لكن ايا منهم لم ينادها بإسمي يوما ما يؤكد طغيان سحر شخصيتها ، ولم يقتصر تأثيرها عليّ وحدي بل امتد ليشمل كل افراد العائلة ، اذ كانت رائعة في سرد الحكايا باسلوب جذاب يؤطره خيال لا يحده حد وكثيرا ما كانت تفاجؤنا بأفكار لا تخطر على البال لما تمتلكه من ذهن متوقد وإدراك وفهم عميقين بفضل حبها الشديد للمطالعة .
طغت شهرة نازك كشاعرة رائدة ومجددة على موهبتها في القصة القصيرة والتي قلما يشار لها من قبل الباحثين والدارسين . ومثل العديد من مبدعي جيلها آنذاك دخلت الملائكة دار المعلمين العالية قسم الاداب لتتخرج بدرجة امتياز عام 1944 ، ولم تسبقها بهذه الدرجة طالبة في تاريخ الكلية ، كما دخلت معهد الفنون الجميلة وتخرجت من قسم الموسيقى عام 1949 وكانت بارعة في العزف على العود ، ثم انتسبت في عام 1950 لجامعة برنستون في اميركا وكان موضوع دراستها في الأدب المقارن ، ومما تجدر الإشارة اليه انها كانت مهتمة وملمة بالعديد من اللغات الى جانب العربية كالانجليزية والفرنسية والالمانية ، واهتمت بتاريخ المسرح والدراما وفن الإلقاء .
كانت حياتها محتدمة بالعطاء والابداع وإن من الوفاء لرموزنا الادبية ان نذكرها مع الذين مهدوا لبناء النهضة الثقافية ليس في العراق وحسب وانما على مستوى الوطن العربي .
تبقى الملائكة على مرّ الأعوام رمزا للتجدد والعطاء والشجاعة المؤطرة بالوعي المتقدم المستند الى ثقافة عالية وعلم غزير ويظل استذكارها مناسبة لانبعاث الأمل واحتفاء بالإبداع العراقي النسوي .
رحلت نازك عنّا في 19 حزيران من العام 2007 في القاهرة لتدفن هناك لتكون بذلك ثالث كبار الشعراء العراقيين الذين لم يضمهم ثرى العراق بعد الجواهري والبياتي ، وإن كل ما قدم لهذه الشاعرة في حياتها او بعد مماتها لا يرقى الى مستوى ما قدمته من عطاء ثر غزير .. في غيابها آخر ما تبقى من « شظايا ورماد « لـــ « عاشقة الليل « الهائمة في « قرار الموجة « او « تحت شجرة القمر « فــــ «يغيّر البحر الوانه» استبشارا بـــ «الصلاة والثورة».