الى جانب الادباء والشعراء بدأت محاولات نازك الاولى في فهم اسرار الوجود في فترة مبكرة من حياتها. شرعت تطرح الاسئلة عن اشياء لا تستطيع ان تفقه مغزاها ولماذا صارت على هذه الشاكلة. كانت تفكر لماذا تشعر بالكآبة مثلا بينما عروقها تتفجر حيوية واقداما على القراءة والدراسة والنشاط ما هو سر سحر الليل والنجوم والسماء والاشجار والانهار؟ لماذا تفرح الان بشيء لا يعود له القيمة نفسها عندها بعد ساعة من الزمن او بعد يوم؟ ما أكثر الاسئلة الكثيرة المحيرة التي لا تجد لها جوابا وتظل تتراكم في داخلها لتطل فجأة بعد مضي سنوات وسنوات من العمر دون ان يستطيع الزمن دفنها وها هي تتذكر بعد مضي عقود من السنين حادثة من ايام الطفولة عندما خرج جميع ساكني البيت الكبير ولم يبق فيه الا هي وخالها جميل وتتساءل قائلة:
“ولم ندر انا وجميل كيف نبدد وحشة المساء فاخترعنا لعبة صبيانية رحنا نلعبها واحببناها حبا متحمسا حتى ملأنا ساحة المنزل الواسعة ضحكا وقفزا وصراخا وقد انسلخ الاصيل كله في جذل رائع فلما كان اليوم التالي رحنا نعيد لعبتنا الجديدة ملتمسين متعة الامس ولكن اللعبة لأمر ما لم تمتعنا هذه المرة. حاولناها سدى حاولنا الضحك وقسرنا أنفسنا على المرح وطبقنا الخطوات كلها ولكن من دون جدوى فقد استعصت اللعبة وكأنها فقدت روحها.
واذكر ان هذا الحادث كان اول فلسفة خضنا فيها انا وجميل فقد جلسنا مكتئبين على درج السلم لا ندري ما نصنع ولم ازل حتى هذه اللحظة اذكر كأبتي ونبرة صوتي وانا اهتف “جميل لقد استمتعنا أمس بهذه اللعبة فلماذا لم نحبها اليوم” وفكر جميل واجما لحظات ثم اجاب: “لست أدرى…لابد ان نكون نسيناها ولم يخطر لنا قط ان نبحث عن التغير في أنفسنا.
اية دلالة لهذا الحادث؟ انه كان رمزا عميقا للحياة كلها فما يكاد الطفل يكبر حتى تفقد لعبة الحياة معناها الاول الذي كان ممتلئا حماسة وجدة والوانا. وكما جلس الطفلان جميل ونازك على درجة السلم بالأمس تجلس العجوز اليوم لترقب سأم موكب الزمان وتتساءل كئيبة عن لعبة الحياة التي فقدت متعتها واستحالت الى ملل رتيب”.
عند عتبة السبعين
مع دنو الثمانينيات احست نازك بان حالتها الصحية لم تعد تساعدها على الكتابة كما كانت في السابق مرت فترة كانت تصاب فيها بنوبات من الصداع وخفقان القلب وتشعر بضيق في تنفسها يضاف الى ذلك انها كانت تتناول الحبوب المهدئة لمدة طويلة بين آونة وآونة اخرى مما كان له تأثيره السلبي على نشاطها الادبي والفكري.
اعتادت نازك ان تكتب عشرات الرسائل الى اخواتها واخوالها واقاربها تخبرهم فيها عن احوالها وحياتها وتتلقى خطابات تتعرف فيها على اخبارهم وشؤونهم اليومية. صارت الان تجد صعوبة حتى في كتابة رسائل مفصلة واصبحت تجد عنتا حتى في الرد على الرسائل التي يبعثها مريدوها والذين يكتبون عنها ويطلبون منها بعض المعلومات او يحتاجون الى مساعدتها كانت هذه الحال تشعرها بالضيق الشديد وتتذكر قول استاذها الشريف محي الدين حيدر الذي درست على يديه الموسيقى ايام شبابها بان المرض يأتي سريعا ولكن الانسان لا يشفى منه الا بعد فترة طويلة اخذت المظاريف تتراكم على مكتبتها ويمر العام وهي لا تكتب الا ردودا قليلة لأصحابها.
صارت تكتب رسائل قصيرة وبأعداد قليلة فان تعطشها لمعرفة اخبار اهلها وانتظار اجوبة منهم كان يستحث قواها في الكتابة إليهم كان حبها لأطفالهم وصغارهم قويا حارا واعتادت ان تكتب اليهم بلهفة وشوق وتحاول توجيههم فقد كتبت الى لبيد ابن اختها سعاد ووحيدها ثلاثة اناشيد كانت قد نظمتها لابنها البراق في طفولته ونثبت واحدا منها هي:
نحن صغار الامة نضيء في الملمه
وكلنا حماسه لدرسنا وهمه
نحن صغار الوادي نسعد بالإنشاد
نعطي لماما باقة من أجمل الاوراد
صباحنا ملون تمرح فيه النسمه
وليلنا منور بألف ألف نجمه
نحب بابا وله من قلبنا نغني
وارضنا نحن له في الغد خير حصن
وشفعت هذه الاناشيد ببضعة سطور ضمنتها بعض النصائح التي تقال للأطفال عادة:
“الصغير العزيز لبيد:
لك قبلاتي واشواقي
وارجو لك أجمل الاوقات وان تكون في صحة جيدة وان تكون عاقلا في البيت وتحب ماما وبابا وان تذهب الى المدرسة كل يوم وتكتب دروسك وتطلع الاول بالصف”.
وكانت نازك تسعد وتستمتع بابتسامات ملهم الصغير والحفيد الأول لصادق الملائكة احبت وداعته وهو متعب وهو يريد ان ينام وشيطنته عندما يكون في نشاطه المعتاد وكانت تسحرها ضحكاته الطفولية العذبة تناديه يا حبيبي وتضحك من صرخاته الحادة التي يطلقها عندما يريد شيئا ولا يحصل عليه كان ذلك الصراخ يزعج جده أحيانا لأنه يحرمه من الهدوء الذي اعتاد عليه ونظمت له مرة ابياتا عامية تلاطفه فيها فتقول :
ملهم حافظ غنوة غيره ما بدو
كل يوم يغني بيها ويضوج جدو