عبد الغفار العطوي
البحوث النقدية الادبية و التاريخية التي ناقشت فكرة الريادة في الشعرية العراقية المعاصرة ،في الشعر الحر انتهت الى ثلاثة محاور :
المحور الاول : هو الذي تبنى ريادة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب 1926-1964للشعر الحر أولاً و شاركته الشاعرة العراقية نازك الملائكة( 1923-2007) و اعتبرا رائدين اساسيين للشعر الحر قبل اتساعه كظاهرة تجديدية في الشعرية العربية ، مع ترجيح كفة السياب لاعتبارات يمكن مناقشتها و بيان اخفاقاتها في الإقناع لنا كباحثين و قراء بعد مضي عقود على هذا الموضوع ،و ذكر النقاد و الباحثون جملة من الاجتهادات نعالج السبق الريادي للسياب بقيت مدار جدل قائم لحد الآن ، و يعلل الدكتور احسان عباس في كتابه(بدر شاكر السياب دراسة في حياته و شعره) (1) ان شعرية السياب المبكرة تدل في قدرته بالانفتاح على مظاهر التجديد ، إذ يمكن ان يقال ان شاعرية بدر تفتحت مع بداية الحرب العالمية الثانية غير متأثرة او منفعلة بها ، و كانت تلك الحرب قد فاجأت الحركة الشعرية في جميع انحاء العالم العربي، و لما انتقل الى بغداد لاكمال دراسته الجامعية بعد عامه الدراسي ( 1942-1943) اصبح لدى بدر شعور ان الشعر لم يعد تلهيا بالنغمات و القوافي ، و إنما اصبح قدره الذي لا محيد عنه (2) لكن احسان عباس لم يوضح كيف تولد هذا الشعور المبكر عند السياب و هو يعيش في اقصى الريف في البصرة آنذاك في صعوبات الاتصال بالمدنية التي كانت محصورة في العاصمة بغداد، و في البصرة على نطاق ضيق، و لعل سلمان هادي آل طعمة في كتابه( رواد الشعر الحر في العراق ) يؤكد ان الشاعرة نازك الملائكة انها اول من ادعت من وضع مصطلح (الشعر الحر ) وصفته على هذا اللون من الشعر الذي يعتمد ( التفعيلة)كأساس عروضي له، و مع عدم التقيد بالقافية الموحدة ، و نفت علمها بأية دعوة شعرية تحمل المصطلح نفسه كدعوة ابي شادي مثلاً (3) و هو يعني ان نازك الملائكة تعي المغايرة في الشعرية العربية مبكرا ، عكس الآخرين الذين تأثروا بإنجازات الشعراء المجددين كأبي شادي و باكثير و علي محمود طه ، و شعراء المهجر وسواهم ، و كان السياب واحدا من الشعراء الذي تأثر بالشعراء المجددين السابقين لعصره بقليل ، من دون ان يعي المغايرة ، إنما هو ربط منجزه الشعري في فكرة التجديد من باب التحديث و ركوب موجة التغيير ، لأنه لم يقطع صلته بالنظام الشعري التقليدي ، ففي ذروة التجديد في الشكل الشعري نظم في الشعر التقليدي و الامثلة كثيرة ، يقول احسان عباس عن حياة السياب في شبابه كان بدر في هذه المرحلة شابا بسيطا لا يتعدى عالمه القرية و ضواحيها و مدينة البصرة و ما عرفه منها ، أما بغداد فإنها لم تعش في خياله، و يتهيب الحديث عنها او الاستشراف لزيارتها (4) اي ان السياب لم يتابع حركة التحديث في الشعرية العربية ، او نمت قدراته الريادية في مغايرة النمطية الشعرية إلا لما عاش في بغداد في دراسته الجامعية ، و هذا يدل على الوعي الثقافي الذي نتوقعه من الشاعر السياب قبل هذا التاريخ غامضا ، اقصى ما تأثر به هي بالرومانسية التي صبغت قصائد الشاعرين علي محمود المهندس و محمود حسن اسماعيل(5) و لعل السياب اثبت ثقافته و تميزه في تفضيله الانتقال من فرع الادب العربي الى فرع اللغة الانكليزية في دار المعلمين العالية بعد سنتين من دراسته الجامعية (6) و ان كانت بداية كتابته للشعر عام 1940 و نشر عددا من قصائده في صحف بغداد ، لكن السياب اعتبر رائدا للشعر الجديد ، بوصفه يشكل احد المنعطفات المهمة في مسيرة الشعر العربي المعاصر ، و قد قام بدور كبير في تطوير مسار الشعر العربي الحديث نحو قمة الخلق و الابداع سواء في الشكل او المضمون (5) و هذا ما هو اكيد في قراءتنا لنتاجاته الشعرية المتأخرة خاصة في اطلق عليها بالتموزيات (6) التي وصل بها الى ذروة النضج الشعري الابداعي، بعد ان شارفت حياته على الانطفاء جراء مرضه و فقره و صراعاته مع الشيوعيين و سواهم ، مما لم يتح له المجال لتعميق منجزه الريادي ، و عدّت مرحلة التموزيات اقصى ما جادت به شعرية السياب (7) لكن الريادة في الشعر الجديد ( الشعر الحر) نسبت للسياب و قد اصبحت موضع خلاف و جدل لحد الآن ، لأسباب تتعلق بالنظرة البطريركية التي تتبناها الشعرية العربية منذ قرون و انطوت على مفاهيم الفحولة و إقصاء النساء الشواعر ، و لم تقاس الريادة إلا على وفق خلاف في اسبقية تاريخية في نشر و كتابة اول قصيدة للشعر الجديد الذي لم يكن جديدا في إحداث خلخلة في شكل الشعرية( الشكل في القصيدة)و قد يقال ان الريادة في الاسبقية التاريخية ، و هذا خلل في تقييم النظرة النقدية لمفهوم الريادة ، لأن القول بالاسبقية التاريخية ينفي المحاولات غير المدونة التي تسبق نشر اول قصيدة او ديوان ، يدفع بالباحثين الى فرضيات محتملة ، و هذا هو ما حاصل الآن، و يعطي لبعض الباحثين مبررات تعميم مفهوم الريادة الشعرية ، و تحولها الى ظاهرة ثقافية ادبية ، بعدم انقطاع الشعرية العربية عن التواصل التاريخي ، و ظهور حركات تجديد و ثورة و رفض لشكل و مضمون الشعر العربي .
المؤسسة السياسية الثقافية
المحور الثاني : و هو الذي رعته المؤسسات غير الشعرية التي تميل الى ادلجة مفهوم الريادة ، و إحاطته بهالة من القداسة المؤسساتية ، فالريادة في رأي المؤسسة ( السياسية الثقافية ) هي ريادة سسيو معرفية ، و إن بروز الافراد كرواد ( المؤسسة تعترف بالسياب و نازك بالريادة الاعتبارية ) لوجود التمايز ، ففي هذا الجو من التدفق و النهوض، وجدت حاجة ملحة لابتكار اساليب جديدة في الشعر العربي المعاصر تحمل مضامين و اراء تناسب و حداثة المواقف الخ (8) فالقول بأن الريادة في الشعر لا تخرج عن كونها ثورة و تمردا اجتماعيا معرفيا من مدعيات المؤسسة مهما كانت متبنياتها قريبة من الخطاب الشعري الذي يحاول تكريس الريادة في طقسها المعزول عن اي اتجاه يرى في مأسسة ذلك المفهوم نجاحا و فائدة عامة تخدم المجتمع و مجالاته ، بينما الخطاب الشعري يود تثبيت الريادة بمعناها و وامها الفرديين ، لهذا جاءت محاولات تعديل مفهوم الريادة و إلغاء فردانيتها و توسيعها عن طريق التجييل ( جيل الرواد) يروي مؤرخو الشعر العراقي ان حركات التجديد في موسيقى الشعر العربي و النشاط الواسع لهذه الطريقة بدأ بعد تأسيس جمعية ( ابولو ) و مجلتها في مصر سنة 1932 ، و لا شك ان مجلة كهذه قد وصلت الى كافة الاقطار العربية و بضمنها العراق ، فيها نماذج متعددة من الشعر الحر (9) و هو يعني بنظر المؤسسة التي تدفع بهذا المتبنى ، إن الريادة ظاهرة معرفية عامة ، و هو قول يتعارض مع تصريحات رواد الشعر الحر كتصريح نازك الملائكة في إطلاقها لمصطلح ( الشعر الحر) و يعيب مؤيدو هذا المحور انه و لو افتخرت نازك الملائكة في انها اول من وضعت المصطلح لا يعني حيازته على قبول النقاد بسبب التركيبة المتناقضة التي عاب عليها احد كتاب هذا المحور ، فالشاعر علي الحلي ابدى استغرابه بعد مقارنة المصطلح بين الادبين العربي و الغربي من عدم طرح القضية على طاولة البحث في الندوات و المؤتمرات المتخصصة(10) في إشارة واضحة في تسويف مفهوم الريادة لأحد و تركها عائمة جماعية و دعا علي الحلي الى تدخل من قبل النقاد و الباحثين العرب في ارجاء الوطن العربي في حل إشكالية الريادة ، لكن احدا لم يتوصل الى وضع صورة نهائية تضفي على المصطلح تسمية مستلة من الدقة العلمية و الموضوعية و الفهم التاريخي لكي يكون التداول عاما و مشروعا (11) لكن محاولات هذا المحور في تغيير المصطلح ( الشعر الحر) رفع من شهرة نازك الملائكة، رغم استمرارية ضغط الشاعر علي الحلي في نقد التمسك به ،(12)الخ
الثقافة الذكورية المعارضة
المحور الثالث: الذي ظل متخفيا وراء البنيات اللاواعية الثقافية التي تحاول التعتيم عليه، وعدم إطهاره للعلن، الثقافة الذكورية التي تعارض ان تقطف المرأة ثمرات الريادة لها حتى و لو في الرمز المخبوء بالشعر، و ان تكون ( نازك الملائكة ) الرائدة المتوجة لثورة التجديد في نمط قار في الشعرية العربية منذ القدم ، و ان اراد ان يتجدد نزع ثوب ذكوريته لثان اوسع نسقية ، بطي اذيال الانثوية التي تطورت من الشاعرة الفحل كالخنساء الى شواعر البلاط في قصور الخلفاء ، ما اريد لنازك ان تكون امرأة فحل و ليس ( امرأة –انثى ) كي تتخلص من عنق زجاجة الذكورة ، فهناك تمييز ثقافي صارم بين كلمة ( امرأة ) و كلمة (انثى) فالمرأة ليست دائما ( انثى)(13) و هذا يعني بمنظور النظام البطريركي العربي خروج احد تمركزات الذكورة السسيومعرفي عن دائرة السيطرة ، فكان لزاما ان يكون الشاعر السياب الفحل المدجن الرائد الاول للشعر الحر ، ثم تأتي نازك الملائكة في الدور او المرتبة الثانية مكملة و مشاركة في الريادة ، لكن الشاعرة نازك الملائكة لم تصمت و انبرت في دفاعها عن تسمية ( الشعر الحر ) في مقدمة ديوانها ( شظايا و رماد ) حين قالت : ان الشعر الحر شعر ذو اسلوب جديد و لكنه ليس خروجا على طريقة الخليل ، و إنما هي تعديل لها ، يتطلبه تطور المعاني و الاساليب خلال العصور التي تفصلنا عن الخليل (14) لتثبت جدارتها ليس في كتابة الشعر الحر ، إنما الوعي بما تكتب و لم تكتب ؟ ففي بداية الخمسينيات عندما كانت في التاسعة و العشرين من عمرها فقط ،كانت نازك الملائكة و هي تتبوأ المكانة الاولى في العراق كشاعرة و ناقدة و كاتبة واسعة الاطلاع محاطة بثوب الاحترام و المرجعية ، –قد قدمت تحليلا ثاقب النظرة لوضع المرأة العربية في منتصف القرن العشرين (15) فمن الطبيعي ان تدافع عن ريادتها ان لم يكن بالشعر ، فبما كتبته بعد ذلك في كتابها الشهير( قضايا الشعر العربي المعاصر) فإن اعتبرت قصيدة السياب ( هل كان حباً؟) في ديوانه ( أزهار ذابلة ) الذي صدر عام 1947 في القاهرة اول محاولة في الشعر الحر ، فإن نازك الملائكة في حياتها العلمية و الادبية و العائلية مؤهلة لتصبح هي رائدة الشعر الحر بلامنازع ، و إن قولها بالريادة التي سبقت بها السياب التي تمثلت بقصيدة ( الكوليرا ) وقد نشرتها عام 1947 لا تعني سوى فك اشتباك بينها و بين السياب ليس إلا ، كتابها الآنف الذكر ردت به ليس في حقها في الريادة الشعرية ، بل لكسر نمطية المرأة – الانثى الفحل الى المرأة – الإنسان التي تعي ما تعمل تقول نازك في مقدمة الطبعة الخامسة من الكتاب بقلم المؤلفة و هي إشارة واعية لكينونتها النسوية : في عام 1962 صدر كتابي هذا في طبعته الاولى و كنت قد اوردت فيه كل ما استطعت الوصول اليه من قواعد الشعر الحر ، و مسائله، و لذلك لم احتج الى كتابة مقدمة له (16) و تفصل موقفها من الشعر الحر و مناوئيه وما يمكن ان يمثل في الشعرية العربية الخ ربما يسأل احد ما : لم ابعدت نازك الملائكة من المرتبة الاولى للريادة ووصفت بأنها شاركت السياب في الريادة ، ماداما هما اللذين نشرا نصيهما في السنة نفسها للذين برروا ذلك الإبعاد ؟ و ما يمكننا القول للذين تهجموا على ما طرحته من إشكالات في قضايا الشعر الحر و اعتبروه نكوصا عن منجزها في الشعر الحر و تقييدا للآخرين في تجاربهم اللاحقة ؟ اعتقد ان الاجابة عليهما مازال غامضا لم يفتح للنقاش ، و في خاتمة بحثي يمكنن التصريح بأن السبب في ذلك لم يكن متعلقا غير في الصراع الابوي الذي يرقد في الشعرية العربية ، و قد قبل التحديث في الشكل الشعري و التجديد في المضمون الانشائي الادبي ما دام الرجل هو الفاعل ، لكنه وقف ضد نازك الملائكة بوصفها امرأة ، ان الدراسات النسوية اليوم اوضحت ان الفروق بين الجنسين ليست سوى فروق ثقافية ، و لعل نازك بإطلاعها المبكر على بعض الدراسات النسوية اعطتها حافزا في الدفاع بصلابة عن موقفها في الريادة.
إحالات
1 – بدر شاكر السياب دراسة في حياته و شعره الدكتور احسان عباس مكنبة بغداد دار الثقافة بيروت الطبعة الثانية 1972 ص 20
2 – المصدر نفسه ص 21
3 – رواد الشعر الحر في العراق تأليف سلمان هادي آل طعمة دار البلاغة الطبعة الاولى 2002 ص 10
4 – بدر شاكر السياب مصدر سابق ص 35
5 – المصدر نفسه ص 30
6 – رواد لشعر الحر مصدر سابق ص19
5 – المصدر نفسه ص 21
6 – بدر شاكر السياب مصدر سابق ص 250
7 – المصدر نفسه ص 417-418
8 – رواد الشعر الحر مصدر سابق ص 7
9 – المصدر نفسه ص 9
10 – المصدر نفسه ص 10
11 – المصدر نفسه ص 11
12 – المصدر نفسه ص 12
13 – عبد الله الغذامي المرأة واللغة -2- ثقافة الوهم مقاربات حول المرأة و الجسد و اللغة الطبعة الثانية 2006 المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء ص57
14 – رواد الشعر الحر مصدر سابق ص 15
15 – تقاطعات الامة و المجتمع و الجنس في روايات النساء العربيات تحرير ليزا سهير مجج مولا سندرمان تريزا صليبا ترججمة فيصل بن خضراء المركز القومي للترجمة القاهرة الطبعة الثانية 2009 ص 57
16 – قضايا الشعر المعاصر نازك الملائكة دار العلم للملايين بيروت الطبعة الخامسة 1978