ما بين الشعرية والرؤية النقدية والسردية المتفردة عند نازك الملائكة

علوان السلمان

في بغداد 1922 كانت ولادة نازك صادق الكاظمي، وفي القاهرة 2007 كان الافول الجسدي واستمرارية الوجود الفكري الابداعي.
نازك.. اسم اطلقه جدها تيمنا بالثائرة السورية ضد الاحتلال الفرنسي (نازك العابد).. والملائكة.. لقب اطلقه المحيط الاجتماعي على العائلة المتفردة بهدوئها ثم شاع وانتشر ملتصقا بكل افراد العائلة.
نازك الملائكة المثقف العضوي على حد تعبير الناقد الايطالي غرامشي لانغماس نتاجها الثقافي بقضايا المجتمع وتطلعاته.
نازك الملائكة التي شغلت المشهد الثقافي بابداعها الشعري والنقدي والترجمي بالتقاطها معطيات المعرفة وتحليلها وتفسيرها، فهي الرائدة شعريا في عاشقة الليل 1947 وشظايا الرماد 1949 وقرارة الموجة 1957 وشجرة القمر 1968 ويغير الوانه البحر 1970 ومأساة الحياة واغنية للانسان 1970(المطولة الشعرية المتأثر نسجها بالشعر الانجليزي ومضمونها بفلسفة شوبنهاور ..)..
نازك الملائكة المعززة ريادتها الشعرية برؤية نقدية انحصرت في قضايا الشعر المعاصر 1962 والصومعة والشرفة الحمراء 1965..(سلسلة محاضرات القتها الشاعرة على طلبة معهد الدراسات العالي في القاهرة..)..وسايكولوجية الشعر 1992..وهذا يعني ان نازك الملائكة في جوهر مشروعها الشعري والنقدي التنظيري تطمح الى تأسيس شعرية حداثوية تتجاوز القيود الفراهيدية والتبشير بقصيدة الشعر الحديثة..لكن..الناقد فاضل ثامر يرى ان نازك الملائكة ذاتها لم تكن تتحدث عن مفهوم الحداثة بشكل صريح على المستوى الاصطلاحي ..وانما كانت تستعمل مصطلحات اخرى مثل المعاصرة والتجديد..الا اننا نرى والحديث (لفاضل ثامر)ان جهدها الابداعي والتنظيري انما كان ينصب على مشروع الحداثة ذاته..
نازك الملائكة نشرت اولى قصائدها الكوليرا عام 1947..والتي فيها حاولت التعبير (عن وقع ارجل الخيل التي تجرعربات الموتى من ضحايا الوباء في ريف مصر..) على حد تعبيرها..
سكن الليل
أصغ إلى وقع صدى الأنات
في عمق الظلمة..تحت الصمت
على الأموات
صرخات تعلو ، تضطرب
حزن يتدفق ، يلتهب
يتعثر فيه صدى الآهات
نازك الملائكة لم تكن بعيدة عن السرد الروائي والقصصي.. اذ انها تناولت بالنقد ما اتيح لها من نصوص قصصية وهذا يكشف عن توغل عميق في فهم القصة..فنشرت قصة (ياسمين في مجلة الاداب البيروتية 1958 ومنحدر التل 1959 وقناديل لمندلي المقتولة 1978..
ولها رواية مؤجلة (ظل على القمر) ومجموعة قصصية صدرت في القاهرة عام 2000 ..(الشمس التي وراء القمة) وقد ضمت سبع قصص قصيرة (ياسمين ـ ضفائر السمراء عالية ـ منحدر التل ـ الى حيث النخيل والموسيقى ـ رحلة في الابعاد ـ الشمس التي وراء القمة ـ قناديل لمندلي المقتولة).. ونهاية تضمنت شرحها لبعض المفردات التي يجهلها البعض (رازونة ـ طارمة ـ ليوان..)..
وقد علق عليها كل من زوجها عبدالهادي محبوبة وولدها البراق..وهي فيها لم تتجاوز المألوف..اذ التعبيرعما يدور في دواخلها مع شعرية سردية..كما في قولها.. (الومضات الخاطفة من الصلات..) و(اختلاج شفتيه..).. انها تنقل على لسانها وليس هناك راو او احد شخوص السرد القصصي..ففي قصة(ياسمين تعرض الملائكةالسيرة الذاتية لرحلتها الى اميركا ومشاعر الغربة..
(عندما غادرت العراق الى اميركا للدراسة منذ خمس سنين كانت قد ولدت لنا في المنزل اخت جديدة اقترح اخي اياد ان نسميها (ياسمين) تكريما لشجيرة زرعها في حديقتنا..)..وهذه القصة تميزت بالوصفية للاشياء والموجودات(البيت ـ الحديق ـ الاشجارـ الملابس ـ الشارع ـ القطة(سيرسي…)..مع كشف عن بعد نفسي(سايكولوجي)يخيم على علاقات الاشخاص..كون القصة تنقل هواجس فتاة غادرت اسرتها ووطنها للدراسة وهي مثقلة بمشاعر الانتماء..لذا فهي تحاول ادامة الروح العائلية والقضاء على مشاعر الاغتراب من خلال الرسائل المتبادلة بينها وافراد العائلة..
(واما انا فلم اعد اراها كما ينبغي طفلة صغيرة مشاكسة وانما تحولت بنظري الى انسان مدرك بما يصنع..)..
فالقاصة الشخصية المحورية في القصة تتوهم اختها الصغيرة فتاة كبيرة تضع مشاعرها في تضاد معها…
وهناك قصة( ضفائر السمراء عالية)..وفيها تعثر الطفولة على كنز يعود الى صديقة الام..و(حيث النخيل والموسيقى اذ التعلق بالطبيعة والتعبير عن الاحساسات الداخلية..).. وما هو واقعي منظور ينم عن توجه اجتماعي بلغة لا تقبل التأويل..كما في(الشمس التي وراء القمة ومنحدر التل ورحلة في الابعاد وقناديل لمندلي المقتولة..اذ اغتصاب مياه النهر الذي تدور حوله الاحداث)..
لقد اعتمدت نازك في سرديتها التقليدية المغرقة بالواقعية المنظورة معمارا فنيا منحصرا في (استهلال وذروة ونهاية) ..
نازك الملائكة في قصصها تنتمي الى واقع انساني فتكشف عن همومه بمحدودية ادواتها الفنية كونها قريبة من الحكاية التقريرية المباشرة..اذ ابتعادها عن يقظة الفكر وتحريك الذاكرة….
نازك الملائكة في قصصها يسيطر المكان على المستوى الموضوعي والتشكيلي..هذا يعني انها تحفز الذاكرة فتربط بين الذات والجماعة عبر لغة طاقتها التعبيرية تتمثل في تحقيق المستوى الصوري الواقعي..فهي توظف المكان ككيان يحتوي على مجمل التفاعل بين الانسان ومجتمعه..لذا فهو يحمل جزء من اخلاقية وافكار ووعي ساكنيه..انه الجغرافية الخلاقة التي تشكل جزء من الحدث المرتبط بزمكانية محددة.. مع سيطرة مسحة الحزن الذي هو (حزن فكري نشأ عن تفكير في الحياة والموت من جهة وتأمل في احوال الانسان من جهة اخرى..)على حد تعبير عبداللطيف شرارة..حتى انها عندما سئلت عن روح الحزن والكآبة التي تغلب على نصوصها اجابت قائلة(لعل سبب ذلك هو انني اتطلب الكمال في الحياة والاشياء وابحث عن كمال لا حدود له..وحين لا اجد ما اريد اشعر بالخيبة واعد القضية قضيتي الشخصية..اضافة الى هذا انني كنت الى سنوات خلت اتخذ الكآبة موقفا ازاء الحياة..
نازك الملائكة ..فلسفتها في الحياة تحددها بقولها(ارفض كل زيف وفساد وعبودية وشر وطغيان وقبح وظلم..)..
يقول عنها أبو سنة.. أن نازك الملائكة كانت صوتا مرهفا وعقلا نقديا بارزا.. امتلكت ناصية الثقافة العربية العميقة.. وكذلك استقت من مشارب الثقافة الغربية.. خاصة الإنجليزية والأميركية.. ويتابع أبو سنة أن اتصال الشاعرة الراحلة بحركة التجديد مع زملائها السياب والبياتي لم يمنع بروز صوتها الأنثوي الخاص.. الذي اتسم بهذه الرقة الفياضة في اللغة والصورة الشعرية النضيرة والعمق في الإحساس بالأشياء.. وهي خصائص تميز المرأة وتميز نازك الملائكة على وجه التحديد..
اما إيمان بكري فتقول(إن نازك الملائكة كانت واحدة من أبرز الأصوات النسائية الإبداعية التي فرضت نفسها ووجودها وكان لها الفضل في ترسيخ حركة التجديد في الشعر العربي.. كما تميزت بالشجاعة في طرح مشروعها الأدبي وسط كوكبة من عمالقة الشعر العربي الحديث.. وهذا في حد ذاته انتصار للصوت النسوي في حركة الشعر الجديدة..)
اما الدكتور معجب الزهراني استاذ الأدب العربي بجامعة الملك سعود.. بالرياض فيقول : تمثل نازك الملائكة.. لحظة تحول مهمة جداً في الشعرية وكذلك سياق الشعرية العربية الحديثة.. وهي بقدر ما القي الضوء حولها.. ستظل هناك نقاط ملتبسة في هذه اللحظة التحولية المثيرة للأسئلة.. فقبلها حاول بعض الشعراء المهجريين..احداث نوع من أنواع الثورة في لغة القصيدة العربية وفي موضوعاتها وفي أشكالها.. ولكن أن تأتي نازك الملائكة وتشخص هذا التحول في قصائدها.. وكذلك السياب.. فهذا ما يثير الأسئلة.. وفي اعتقادي أنه ما زالت هناك حاجة ماسة للبحث في لحظة التحول هذه.. برغم ما كتب عنها من دراسات نقدية». ويضيف الزهراني: «الذي يثير اهتمامي الشخصي عندما أدرس الأدب العربي الحديث أو حينما أكتب موضوعا حوله، أن الموروث الشعري المكتنز في الذاكرة العراقية.. سواء الفردية أو الجماعية أو المكانية.. إلى الآن لم يبحث بشكل معمق.. ونحن نحتاج إلى بحوث تغامر في هذا الاتجاه تماماً.. كأن نقول إن ذاكرة السرد النثري عريقة في مصر.. أو ذاكرة الشعر التقليدي بنوعية الفصيح والشعبي عريقة في الجزيرة العربية.. هناك ذاكرة شعرية ثرية ومتنوعة في بلاد وادي الرافدين.. واعتقد أننا نحتاج إلى دراسات معمقة في هذا المجال.. ويجب أن تستصحب هذه الدراسات دراسات الفكر الفلسفي والأنثربولوجي الحديث.. كشرط أساسي.. إذ لا تكفي الدراسات النقدية والبلاغية المعتادة.. وهذا من شأنه أن يلقي ضوءاً جديداً على هذا التحول.. الذي وجد ناضجاً ومكتملا على يد نازك الملائكة وبدر شاكر السياب.. ولا يكفي أن نقول إنهما تأثرا بالشعر الأنجليزي.. أو بفلان من الشعراء.. هذه المقولات تريح الذهن من عناء البحث.. لكن هناك حاجة إلى بحوث معمقة في المناطق المجهولة بعض الأحيان لكنها تشعل الوجدان وتحفز العقل..
نازك الملائكة تركت ارثا ابداعيا واعمالا خطية تمثلت في (يومياتها في 63 دفترا بالقطع المتوسط وشعر في دفترين لم تنشره بدعوى انه من شعر الصبا والمناسبات وهناك لقاءات اذاعية وصحفية في الكويت ودمشق ومصر وبيروت وبغداد..كما يقول زوجها عبدالهادي محبوبة..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة