فاضل ثامر
ربما يمثل مشروع نازك الملائكة الحداثي، اول خرق نسوي عربي معاصر لذكورية القصيدة العمودية التقليدية، فخلال اكثر من خمسة عشر قرنا ظلت القصيدة الكلاسيكية مهيمنة على الذائقة الشعرية العربية، وعلى الشعرية العربية و»عمودها» المقدس الذي وضعه لها النقاد القدامى، وخلال هذا الزمن الطويل لم يجرؤ شاعر عربي فحل ان يهز اسس هذا الصرح المتجذر، حتى محاولات شاعر كبير مثل ابي تمام لتحديث القصيدة العمودية، ذهبت هباء مع ارتفاع صوت المتنبي، الذي اصبح مشروع حداثة القصيدة العربية الكلاسيكية، اذ جاء به ابو تمام جزءا من الذاكرة التاريخية ليس الا، الى ان جاء صوت انثوي قوي في نهاية النصف الاول من القرن العشرين لتهز بقوة واصرار هذه الشجرة الباسقة، ولتعلن ان مرحلة ازدهارها قد ولت الى الابد، وحان الوقت لتأسيس شعرية حداثية، تنسجم وروح العصر، وربما يذكر النقاد بعض الاسماء الشعرية التي حاولت هز هذا الجذع الكبير في القرن العشرين، مثل علي احمد باكثير، ولويس عوض، الا ان هذه الشجرة الباسقة ظلت صامدة ولم تتزعزع، حتى جاء هذا الصوت الانثوي المتمرد، المتمثل بالشاعرة الكبيرة نازك الملائكة ومن العراق تحديدا، لتضع حدا لتاريخ طويل، وتفتح صورة مورقة شاركها في فتحها- للأمانة والتاريخ- شاعر شاب متمرد ويساري، هو بدر شاكر السياب، واصبحت بعد ذلك صوت الشعرية العربية في عصرنا، من خلال قصيدة الشعر الحر (او قصيدة التفعيلة)، ونتاجها اللاحق (قصيدة النثر)، حيث نهل شعراء العرب المعاصرون من نبع الحداثة الشعرية العراقية، (حداثة نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري)، وساروا بحركة الحداثة الشعرية اشواطا ومراحل عديدة، منها القصيدة الحداثية الستينية، التي حاولت ان تتجاوز الاطر المحدودة لمشروع الحداثة الخمسينية، وفتح الابواب امام مشروع الحداثة بوصفه مشروعا تحديثيا مفتوحا.
منذ البداية كانت نازك الملائكة واثقة من مشروعها، على الرغم من كل الاعتراضات، ومنها اعتراضات والديها وهما من الشعراء المعروفين، عندما قالت لهما بثقة واعتداد: ان قصيدتي ستغير خريطة الشعر العربي، وفعلا وصفت نازك الملائكة بأنها المرأة التي غيرت خريطة الشعر العربي.
لقد مثلت مقدمة الشاعرة لديوانها شظايا ورماد ما نيفستو « حركة الحداثة الشعرية بكل مقوماتها التمرد على العروض الخليلي، والقافية وكل اقاسيم عمود الشعر المقدسة، فقد صرخت آنذاك في هذه المقدمة/ المانيفستو بقوة «نحن عموما مازلنا اسرى، تسيرنا القواعد التي وضعها اسلافنا في الجاهلية وصدر الإسلام، مازلنا نلهث في قصائدنا ونجر عواطفنا المقيدة بسلاسل الاوزان القديمة وقرقعة الالفاظ الميتة».
وشنت نازك الملائكة هجوما عنيفا على طريقة الخليل بن احمد الفراهيدي فقالت:» ما لطريقة الخليل؟ الم تصدأ لطول ما لامستها الاقلام والشفاه منذ سنين وسنين؟ الم تألفها اسماعنا وترددها شفاهنا وتعلكها اقلامنا حتى مجّتها، منذ قرون ونحن نصف انفعالاتنا بهذا الاسلوب حتى لم يعد له طعم ولا لون، لقد سارت الحياة وتطبعت عليها الصور والالوان والاحاسيس، ومع ذلك مازال شعرنا صورة لقفا بنك وبانت سعاد الاوزان هي هي القوافي هي هي وتكاد والمعاني هي هي».
بمثل هذه القوة قدمت نازك الملائكة مرافعتها الجريئة ضد سلطة القصيدة الذكورية، وفتحت الطريقة امام هيمنة القصيدة الانثوية، ممثلة بقصيدة الحداثة التي تخلت عن منبرية القصيدة التقليدية ومخاطبة الجماهير وتحريضها، ودفعها الى الحرب والثأر كما مالت هذه القصيدة الى الهمس والرقة والعذوبة، وتحولت من نص شفاهي الى نص كتابي مهموس، وهي كلها صفات تعلّي من السمات الانثوية في قصيدة الحداثة الشعرية.
لقد أدركت الشاعرة نازك الملائكة بحساسيتها الانثوية المرهفة، ان العصر الجديد به حاجة الى ادوات شعرية متجددة، لا يمكن لمقومات القصيدة التقليدية وقيودها تلبيتها، ولهذا اتجهت الى قصيدة التفعيلة، او ما سميت بقصيدة الشعر الحر، التي تخلت عن نظام سيمترية البيت الشعري، بتفعيلاته الثابتة نحو قصيدة تعتمد على التفعيلات المتغيرة، وعلى السطر المفتوح اسوة بالقصيدة الغربية في الشعر الفرنسي والانجليزي.
ولهذا من حق الشاعرة الرائدة نازك الملائكة علينا، وعلى تاريخنا الثقافي ان نسجل اسمها بأحرف من نور، بوصفها الانثى التي حطمت خرافة فحولة القصيدة العربية، واكسبتها الكثير من ملامح الانوثة التي رسمت القصيدة العربية الحداثية، وانها كما تنبأت مبكرا بأن قصيدتها ستغير خريطة الشعر العربي».