إسماعيل زاير
تشكل نازك الملائكة ظاهرة ادبية فريدة وانموذجاً انسانياً اكثر فرادة .. فهي رائدة التجديد في الشعر العراقي والعربي الحديثين من جهة وهي في طريقة عيشها وسلوكها نسجت طيلة العقود التي عاشتها وحتى مماتها في القاهرة انموذجاً في الطهرانية السلوكية قل نظيرها . وفي كلتا الحالتين كانت خطى نازك منقادة الى موسيقاها الداخلية وتمسكها الصارم بالرقي والإعتزاز بالذات الشخصية وبكونها امرأة رفضت الاندماج مع التيار العارم لتمرد المرأة العراقية والعربية كما حصل في خمسينيات القرن الماضي ..
ولعل ابرز فضائلها انها ، على الرغم من ريادتها للممارسة الشعرية وجرأتها في اتباع المناهج الحديثة في ادراك مغزى الشعر ورسالته، رفضت كل مظاهر التبجح والفخار بمنجزها وقبلت بما قبله النقاد والمؤرخون والشعراء والمتابعون ولم تنجذب الى غوايات الشهرة والتفرد الإجتماعيين . ولم تدخل ، بالتالي في مماحكات ومناوشات الشعراء الأخرين من معاصريها والقريبين من تجربتها . ومن هنا لم نر انها جادلت حول اولوية تجربتها مع السياب وعبد الوهاب البياتي .
ويعود الفضل في ذلك الى المواهب الكبيرة لوالدها المؤرخ والمعلم الكبير من جهة والى الحساسية الفائقة لوالدتها ازاء الشعر حيث عرفت بإسم « ام نزار « تبعاً لإسم شقيق نازك من جهة اخرى. ومع ذلك فقد ظلت نازك تدور في مدارها الفكري والأدبي الخاصين وكأنها كوكب مستقل بذاته ، ونسجت بذلك تجربتها وذائقتها استناداً الى صفاء افكارها وتبلورها وانعزالها عن المؤثرات المشوشة .
وشكلت تلك العزلة عصب سلوكها حتى الثلاثين من عمرها وقبل ذلك كانت تميل الى الالتجاء الى ذاتها وانفرادهاعن بنات جيلها اللواتي كن موضع نقدها وصدمتها بسبب ما تصفه في يومياتها « فهن لا يطالعن ولا يعبأن بالفن وليس لهن من الجد في الحياة الا اليسير « وتواصل « … وكنت اعتبر عزلة الشاعر فضيلته وجوهر حريته الفكرية « .
وفيما يشهد النقاد والباحثون على نزعتها التثويرية في الشعر، ولكن الجميع ينظر الى مفهومها عن الفن والتشكيل والنحت بوصفه محافظاً ومتحفظاً فكانت لا تلتفت الى الحداثة في التشكيل وخاصة تجليات الرسم التجريدي وعدته باباً من ابواب العبث غير الجاد . ولم يشفع لها في ذلك قربها من الممارسة الفنية وقرابتها الوثيقة بزوج شقيقتها احسان ، وهو رسام من جماعة بغداد للفن الحديث . وكان علي الشعلان من الفنانين الطليعيين ، مثل الى جانب جواد سليم ومحمود صبري وفائق حسن خيرة الرواد العراقيين واكثرهم تقدماً في مجال المفاهيم والإنتاج التشكيلي في تلك الحقبة . ولعل حياتها المنعزلة عن البيئة الإجتماعية والهادئة كانت السبب في توتر حياتها ازاء المحيط العراقي المحتدم والثائر والمنفتح على العالم في كل المجالات تقريباً .
وصاحبتها هذه النزعة الى آخر حياتها ولا سيما بعد اقامتها الختامية في القاهرة والتي وسمت اواخر ايامها وايام عائلتها الخاصة على وجه التحديد ولم تظهر في لقاءات او مناسبات اجتماعية الا نادراً .
لقد اكتفت نازك مما اسبغه محيطها العائلي الرائع عليها من رصانة واطمئنان وثقة ، وتحول هذا المحيط الى فضائها السايكولوجي الخاص ولا سيما بناؤها الفكري والاخلاقي . وجرت ترجمة هذه العناصر في الخيارات الشخصية لنازك ودفعها الى انتقاءات منسجمة فيما بعد .. فبعد عودتها الى العراق انتقلت لفترة طويلة الى الكويت مع زوجها وعملا معاً في المؤسسات الاكاديمية هناك . وحظيت خلال فترة التدريس هناك بتقدير ممتاز من بيئتها الاكاديمية الكويتية التي عززت فيها النكهة المنعزلة . طبعاً هذا لم يغط على نشاطها الاكاديمي في الكويت حيث اسهمت في تطوير قدرات طلابها وطالباتها وخاصة اولئك الذين قدموا اطاريح دراسية للحصول على الماجستير والدكتوراه .
وفي نهاية المطاف انهت نازك حياتها كما بدأتها كايقونة صافية للسلوك الإنساني الرفيع والمترفع عن تفاصيل الحياة العامة .. وشكلت مصدر فخر وتقدير من قبل النخب الثقافية والأدبية ، بل انها كانت كذلك بالنسبة للمحيط العربي ايضاً .