عبد الغني سلامة
كتاب جديد، للمؤلف جوني منصور، عنوانه: «التدين في مناهج وكتب التعليم في إسرائيل»، إصدار مركز «مسارات» (2018)، يقع الكتاب في 76 صفحة من القطع المتوسط. وتأتي أهميته في مضمونه وتوقيته، في الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل (ومعها أميركا ودول أوروبية) حملتها التحريضية ضد مناهج التعليم في السلطة الوطنية، متهمة إياها بالتحريض على الكراهية والتعصب والتشدد الديني.. اذ يكشف الكتاب أن هذه الاتهامات تنطبق تماما على مناهج التعليم في إسرائيل.
يؤكد الكاتب على أن جهاز التعليم في إسرائيل ليس حياديا، وليس حرا، ولا ديمقراطيا، بل هو موجه، ويخضع في أدق تفاصيله لرقابة الدولة الصارمة، وأن جميع المؤسسات التعليمية تخضع لتفتيش رسمي من قبل وزارة المعارف.
ويشير الباحث إلى أن تراجع التيار العلماني في إسرائيل لصالح التيار اليميني المتدين قد انعكس على جهاز التعليم، ففي ظل حكومة نتنياهو تعاقب ثلاثة وزراء على جهاز التعليم، من التيار الديني اليميني، آخرهم نفتالي بينيت، زعيم حزب البيت اليهودي. وفي عهد هؤلاء تم إقحام المزيد من المركبات الدينية بتنويعاتها المختلفة، في جميع الكتب تقريبا، بما فيها الكتب العلمية، فضلا عن الأنشطة ذات الطابع الديني، التي تعزز القيم اليمينية لدى النشء الجديد.
تمر الكتب التعليمية في إسرائيل بمراحل تدقيق مشددة قبل إجازتها، وتسعى الدولة لجعل هذه الكتب وسيلة لبناء الهوية الإسرائيلية، ثقافيا ودينيا، وتكوين ذاكرة جمعية من خلالها، وجعلها عاملا رئيسا في الربط بين الحاضر والموروث الثقافي والديني، وأداة توجيه فكري وأيديولوجي ديني.. فمثلا في كتب التاريخ والجغرافيا لا يسمح بإدخال مضامين أو أسماء لا تتوافق مع الفكر الصهيوني، القائم على ترسيخ يهودية الدولة، ويسمح فقط بكل ما يتوافق مع الرواية اليهودية التوراتية، على نحو ينكر الوجود الفلسطيني، ويخرجه من الذاكرة ومن التاريخ، وحتى من الجغرافيا، حيث تتعمد الكتب المقررة عدم ذكر كلمة «فلسطين»، أو «فلسطينيين»، بل تكتفي بالإشارة إليهم بكلمة «الأعداء».
ويلعب البعد السياسي دورا مركزيا في هذا الشأن، وهناك علاقة وثيقة بين ما يجري في الحلبة السياسية الحزبية، وما يجري في غرف إعداد الكتب، حيث صارت هذه الكتب تتضمن رسائل مباشرة وأخرى ضمنية، تضم تطلعات ورؤى الأحزاب المشكلة للائتلاف الحكومي، بما يخدم توجهاتها.
وقد قام «منتدى العلمانيين» بمراجعة أكثر من 600 نص من 80 كتابا من الكتب التعليمية المقررة من الصف الأول الابتدائي، حتى الثالث الثانوي، فظهر في ثلثها تلميحات وإشارات دينية وتحريضية.
وإضافة للنصوص الواضحة، هنالك أيضا الخرائط التي تتبنى الرواية التوراتية، بما في ذلك أسماء المدن والمستوطنات، والرسومات التي تتضمن رسائل مشفرة، موجهة، مثل «اليهودي الطيب»، و»الغريب السيئ الشرير» (الغريب دائما هم الفلسطينيون، والعرب، بل وكل العالم غير اليهودي)، فضلا عما يقوم به المعلمون (من خارج المنهاج) بالتحريض، وتنميط صورة العربي، وإظهاره دوما شريرا وعدوا ومتخلفا.
وكمثال على التربية الدينية التي تتعارض مع العلم والمنطق، وفيها تنميط لصورة العربي: جاءت في كتاب للصف الثالث الابتدائي قطعة تتحدث عن حرمة السبت: «السبت يحافظ على اليهودي، طالما حافظ اليهودي على السبت»، «شخص اسمه سليمان هرب من أعداء عرب، وأثناء هربه كان عليه الاختيار بين أن يهرب ويخالف السبت، وبين أن يبقى ويحافظ على حرمة السبت. كان قرار سليمان صائبا؛ إذ اختار الحفاظ على السبت وتعريض حياته للخطر، بينما خالف أصدقاؤه السبت ولاذوا بالفرار فقتلوا، بينما سليمان حفظه السبت، وحماه الله».
في هذا النص تنميط لصورة العربي بوصفه عدوا وقاتلا، وتغييب للعقل والتفكير الصحيح، فكيف يحفظ السبت حياة إنسان؟
والتدين في المناهج يعمل بشكل مدروس على تهيئة الطلبة على الانخراط في الجيش، ومنذ سن مبكرة، من خلال تعظيم قيم الجيش، وتكريم قتلاه، وإعلاء مكانته الدينية، بوصفه جيش الرب، الذي يقاتل أعداء الله. لا توفر المناهج شرحا تاريخيا أو علميا يفسح المجال للطلبة للتساؤل أو للنقاش أو الحوار، حيث تستولي الرؤية الأرثوذكسية على وعي الطلبة وتشكلها، وتصيغ سلوكهم اليومي، وفق روية عنصرية استعلائية إقصائية، تكرس الفكرة التوراتية القائمة على شعار «شعب الله المختار»، وأن غير اليهود هم الأغيار، الذي خلقهم الله لخدمة اليهود.
توجه المناهج الإسرائيلية الطلبة على أن القيم الإنسانية حكر على اليهودية، ففي كتب التاريخ مثلا، الفرس والرومان واليونان أشرار وسيئون ليس لأنهم قوى إمبريالية، بل لأنهم يفتقدون للقيم اليهودية. وهنا يفهم الطالب بأن القيم الأخلاقية مستمدة من التوراة فقط. وأن الآخرين بلا أخلاق، لأنهم ليسوا يهودا.
تمهد المناهج الدينية عقول الطلبة للتسليم بالخرافات الدينية، فمثلا «التوراة تنبأت بالمحرقة»، وفي كتاب الجغرافيا، «الأمطار تنهمر في اليوم الثامن من أيام عيد المظلة» وليس بسبب العوامل الجوية. كما تكرس المفاهيم التلمودية التي تحط من شأن المرأة، وتحرم الاختلاط، وتعزز القيم الذكورية.
وفي كتاب الكيمياء للصف الحادي عشر، تم تشبيه الزواج اليهودي باتحاد الجزيئات: «لما يكون في الغرفة ثلاث عرائس (هيدروجين)، وعريس واحد (زوج إلكترون دون ترابط)، يمكن أن يحدث زواج يهودي حسب الشريعة. وفي كتاب الثقافة للصف السابع يتجاهل النص كون قاتل رابين متدينا، وأنه قام بفعلته بدوافع دينية متزمتة، مستندا إلى نصوص توراتية، وبتحريض من رجال دين.. والقصد هنا التخفيف من خلفيات القاتل، وتلميع صفحته، وبالتالي تبرئة التيارات الدينية المتشددة.
أما المناهج في المدارس الدينية، فهي تعتمد على التلمود و»المشناة» والتعاليم التوراتية، وهي مليئة بعبارات العنف والتحريض على القتل، والعنصرية، وتنظر للعرب وللعالم أجمع نظرة فوقية، بوصفهم أغيارا.
الكتاب وثيقة تدين المناهج الإسرائيلية، وتصف حجم تغلغل الأفكار اليمينية الصهيونية فيها، وتتنبأ بالتالي بشكل ومواصفات الجيل اليهودي الذي سيتخرج للعالم بعد أعوام قليلة، ذلك الجيل الذي تعبأ بالأفكار اليمينية المتزمتة، الذي يعتبر الضفة الغربية الجزء التوراتي من أرض إسرائيل، والذي يقدس الاستيطان، ولا يؤمن بأي سلام.. هذا الجيل سيتسلم زمام الدولة، وسيكرسها دولة دينية عنصرية.
ينشر بالاتفاق مع جريدة الأيام الفلسطينية