حسام السراي
في لحظة لا يمكن فيها للنشاط الإبداعي العراقي إلا أن يشتبك مع الراهن وما فيه من انهيارات، قُدّمت أخيراً مسرحية «ن» على مسرح وزارة النفط ببغداد. عرض احتجاجي على تهجير شرائح شتّى من أبناء العراق، خصوصاً في الموصل، كتب نصّه ماجد درندش، وأخرجه كاظم النصار، فيما شارك في تمثيله ميمون الخالدي، وآسيا كمال، ومازن محمد مصطفى، وباسل شبيب، وعلاوي حسين، إضافة إلى نظير جواد، وأسعد مشاي، وماجد درندش.
سينوغرافيا «ن» جسّدت القبح الذي أتى به «داعش» إلى العراق، حيث البيوت الممهورة بحرف النون، وأخرى بحرف الراء، تشير إلى تكفير مكوّنات أساسية في بلاد الرافدين، كان المسيحيون على رأس قائمتها. في المسرحية التي أنتجتها وزارة النفط، تتمثّل نقطتا البداية والنهاية بـ«اللفاف الأسود» الذي يضعه الأبطال على أكتافهم في إشارة إلى حزنهم. مشهد تؤطره من الأعلى «ن» حمراء تؤدّي إلى فضاء سماوي «افتراضي» لمواجهة الداعشي بجملة أسئلة وصرخات احتجاجية، يبدو فيها الإرهابي خائفاً ومرعوباً بعدما كان يتبجّح بارتكاباته الهمجية. في غضون ذلك، نلاحظ أنّ لازمة العمل هي العبارة التي ردّدها أبطاله على مدى أقل من ساعة: «منذ أن فتحنا أعيننا على الدنيا وحتّى الآن، كلّنا نترك مذاهبنا في البيت ونخرج إلى الحياة بانتمائنا العراقي».
بقي «ن» عرضاً مفتوحاً ضمّ عدداً من القصص الممسرحة التي استندت في جوهرها إلى ما تعرّض له عراقيون في الموصل وفي قرية بشير أيضاً (جنوب كركوك). نشاهد بيوتاً مغلقة تحمل علامة (x) وأحرف الموت، في حين تسيطر على البيئة العامة أجواء المحاكمة المشار إليها، تتوسطها حاجيات النازحين وأشياؤهم، مصحوبة بتراتيل أدّتها أزهار العسلي بمصاحبة دريد فاضل على العود، فضلاً عن حوار يتأرجح بين الفصحى والمحكي، عرفناه في أعمال سابقة للمخرج. طوال العرض، جاء أداء الممثلين على آهات إنسانيّة تطرح أسئلة مُرّة عن الذكريات التي يُراد لها أن تُمحى بالقوّة والمواجهة الحالية مع «الـ«زومبيز» (كما يصفهم العمل)، لنصل إلى التذكير بالتراث الغنائي العراقي عبر أغنية «يردلي». لم يكن لهذا الاحتجاج أن يمضي من دون العودة إلى نماذج من الشعر العراقي والعربي الحديث، ردّدها أبطال العرض، بوصفها جزءاً من ردود فعل المهجرين، مثل استعادة مقطع من «غريب على الخليج» لبدر شاكر السياب. بعض هذه المقاطع يحمل دلالات اجتماعية عن قيمة الارتباط بالوطن، في حين يتجه البعض الآخر إلى السياسة وما وصل إليه الوطن وأهله. وهذا ما تجلّى في مقطع للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش: «أَنا يوسف يا أَبي/ يا أَبي، إخوتي لا يحبونني/ لا يريدونني بينهم يا أَبي/ يعتدون عليّ ويرمونني بالحصى والكلام…». وهناك من عبّر عن الأسى من التهجير على لسان الشاعر الراحل يوسف الصائغ حين قال: «أمس../ رجعتُ إلى بيتي/ لكنّي لم أجد البيت مكانه…/ وتعجبتُ:/ أتراني أخطأتُ الحارة والشارع؟…». أما الخاتمة، فتكون برد السواد الذي جاءت به هذه الجماعات إلى أرض لا تعرفها، حين يغطي الأبطال جميعهم وجه الداعشي باللفافات السود التي كانت على أكتافهم!