اشتغل كثير من أدباء ومفكري الجيل الماضي بالسياسة، وكانت لهم فيها صولات وجولات. لكنها لم تضف لهم شيئاً، ولم يضيفوا لها هم أيضاً، وبقي رصيدهم الحقيقي مقتصراً على نبوغهم في عالم الثقافة. بل إن بعضهم أخفق في ميدان السياسة، وعانى منها. فهي مركب وعر، مجهول العواقب، غير مأمون النتائج.
ولكن الواقع أن هؤلاء جميعاً دخلوا السياسة من بوابة الإعلام، في وقت كانت الكلمة المطبوعة هي النافذة الوحيدة لمخاطبة الناس. وقليلون هم الذين نجحوا في مهمتهم الجديدة، في ما بقي الكثيرون يتصارعون على صفحات الجرائد، دفاعاً عن هذا الحزب أو ذاك. ولم يتيسر لأحد الحصول على منصب مهم باستثناء طه حسين، الذي أتته الوزارة منقادة تجرجر أذيالها، وكان الفضل في ذلك لانتمائه الحزبي أولاً وأخيراً. ومحمد حسين هيكل الذي تقلد العديد من المناصب العليا أيضاً بصفته الحزبية أيضاً.
وكان جل الذين نجحوا في الولوج إلى عالم السياسة العراقية من الإعلاميين. بل إن بعضهم حاول الوصول إلى قمة الهرم السياسي بالترشيح إلى رئاسة الجمهورية. أما الأدباء فلم ينجح أي منهم – حسب علمي – في تخطي هذه البوابة على الرغم مما جبلوا عليه من الاستقامة والوطنية. وسبب ذلك بالطبع أن الناخبين لا يقرأون الكتب، ولا يعنون بالنتاج الثقافي. ولا يعترفون بدور الأدب في صنع الحياة.
وربما كان من حسن حظ هؤلاء الذين لم ينجحوا في الانتخابات، ولم تفتح لهم أبواب السياسة، أنهم خسروا فرصة كهذه، بالرغم من حاجتهم للمنصب والجاه والثروة. فالسياسة مركب وعر، لا يسهل الإبحار فيه دون التضحية بالمبدأ، والتنازل عن العقيدة.
في مصر دارت معارك طاحنة في الخمسينات بين شيوخ الفكر طه حسين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم من جانب، وجيل الشبان الذي يتزعمه محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس من جانب آخر. ومع إعجاب الشبان بنتاجات الشيوخ، إلا أنهم عابوا عليهم اتجاهاتهم السياسية، ولم ترق لهم ميولهم المحافظة. ولكنهم لم يتخذوا من المعيار السياسي أساساً للحكم على مبدعين كبار مثلهم. فقد أدركوا أن من الخطأ أخذهم بجريرة موقفهم من التاريخ. وإذا كان هذا الفصل من صنع نقاد مرموقين من طراز العالم وأنيس. فإن القراء العاديين جمعوا بين المعيارين السياسي والجمالي، ولم يفرقوا بينهما. ولم يتنازلوا عن إدانة من خالفهم في الرأي، أو افترق عنهم في المبدأ.
وبغض النظر عن علاقة الفكر بالسياسة، وسبق أحدهما للآخر، فإن من حسن طالع العرب أنهم منقسمون في هواهم، متفرقون في اعتقاداتهم. ولو لم يكونوا كذلك على أرض الواقع، وعاشوا متحدين متآزرين، لمات الكثيرون منهم خوفاً وكمداً. ولقضوا حياتهم في عزلة خانقة. فلا أحد في مجتمع منغلق يستطيع أن يحتفي بالآخر، أو يقر له بالفضل، حتى لو رفع اسم بلده عالياً في كل الميادين.
محمد زكي ابراهيم
من بوابة السياسة
التعليقات مغلقة