الغجر في.. «لعنة كين» لفوزي الهنداوي

يوسف عبود جويعد

عندما تكون مهمة السارد الأول، بطل رواية (لعنة كين) للروائي فوزي الهنداوي، ليس إدارة دفة الأحداث، وإنما مهمته أكبر وأهم، إذ أنه يقودنا في عملية تبئير للأحداث يكشف من خلالها حقائق تاريخية غائرة في القدم، تخص قبائل الغجر، هذه الفئة من الناس الذين ذاقوا الأمرين وشردوا وهجروا، وبقيت حياتهم مرتبطة بالرحيل دوماً وهي محفوفة بالمخاطر لفقدانها الأمن والأمان والسلام، تبدأ أحداث هذا النص بشكل دائري من النهاية لتعود اليه، بعد أن نمر بتداعيات شعرية حسية مؤلمة تطلقها (ريما) الغجرية التي هجرت من بيتها في (الكمالية) عنوة، هي وبقية العوائل الغجرية، موطنها الذي ولدت فيه، وكان الشخص الأول جارهم لزمن يمتد لأكثر من عقدين.
قلبي يقطر دماً ووجعاً وحسرة
وداعاً بيت الطفولة
والصبا
وداعاً كماليتي الحبيبة
لن أراك ثانيةً
وانتَ يا صديقي الوفيّ
لا تقل سنلتقي
ثانيةً…
لن نلتقي أبداً
أبداً.. أبداً.. أبداً
وهكذا فأن مهمة الروائي ورسالته الإنسانية، وخطابه السردي يكمن، في تقديم حياة قبائل الغجر، قبل الولوج الى ألأحداث، والمرور بشكل تاريخي ومن خلال السارد الاول والذي هو طالب جامعي، وأراد أن يتعرف بشكل تام عن تاريخ وحياة تلك القبائل، وإستطاع أن يحصل من المكتبة العامة على ثلاث كتب تاريخية مثبت فيها تفاصيل مهمة، من الوثائق التاريخية التي سوف نعرف من خلالها حياتهم، وبهذا الاسلوب إستطاع الروائي إدخال المادة التاريخية دون ن تكون مقحمة أو خارج السياق الفني للنص,لأننا نعيش الاحداث التي تخصهم.
(لأكثر من أسبوعين متتاليين تواصل ذهابي للمكتبة الوطنية، أكملت خلالها قراءة تلك الكتب والأطروحة ملخصاً ابرز الموضوعات عن الغجر في العالم وفي العراق بشكل خاص.عرفت أنهم قبائل يعود تاريخها الى ماقبل ثلاثة آلاف عام تجمعت آنذاك على شواطئ الهندوس، كقبائل يتقن أفرادها صنع المعادن، ويعرفون أسرار البرونز، وأطلعوا شعوباً اخرى عليها لاحقاً، عندما بدأوا هجرتهم الأولى سنة 1000 ق. م, كان سبب هجرتهم من الهند الغزوات البربرية آنذاك, وهم من شعوب القوقاز السمر من حيث التصنيف العرقي .) ص26
وأنتشر قسم منهم في أغلب بلدان العالم، والقسم الآخر من الغجر الذي لم يذهب الى تركيا فإنه انتشر في بلاد الشام والعراق، والبعض الآخر عبر سيناء واستقر في مصر.
وعن بنية العنونة (لعنة كين) التي تثير التساؤل من الوهلة الاولى، ولكي نكتشفها علينا معرفة الحكاية الاسطورية التي تقول أن كين هو الجد الاول لقبائل الغجر، وأنه النجار الذي دق المسامير في الصليب، الذي صلب فيه المسيح عيسى ابن مريم (عليه السلام)، لذا حلت عليه وعلى أبناءه اللعنة، وهي تطاردهم حتى اضحوا قبائل رحّل لا تستقر حياتهم على حال.
وهكذا نكون قد تهيأنا لخوض غمار الولوج في أحداث هذا النص وسبر أغواره, بعد ان تفتح أبواب الأحداث على مصراعيها، فنكون مع الزمان أبان أحداث الحرب العراقية الايرانية وقبلها بعدة سنوات والمكان منطقة الكمالية حيث تدور أحداث هذا النص , حيث يسكن بطل هذا النص جار للحي الذي يسكنه الغجر، من عائلة مكونة من الأم والاخت (خولة) , وتسكن ريما الغجرية قربهم, ثم محل العطارة للحاج صالح وابنته سعاد, ونعيش معاناة الغجر لانهم لا يملكون الجنسية ولا يحق لهم تسجيل العقارات بأسمائهم, فيستغل الحاج صالح هذه الفرصة ويكتب تلك العقارات بإسمه واسم زوجته واسم ابنته واقاربه، وهي أول إشارة إستغلال واضطهاد لهذا المكون, بعدها نمر بالعلاقات العاطفية التي طعمت بهذا النص , من أجل منحها طعم آخر, فنكون مع السارد الاول بطل هذا النص, وعلاقته العاطفية والجسدية مع سعاد أبنة الحاج صالح وامنيته أن يعيش معها ليالي حمراء، وعلاقته العاطفية مع ريما الغجرية والتي لم تكن تنحى منحاً جسدياً كونه يشفق عليهم, ويعرف ايضاً كم لحقهم من اذاً وظلم, وعلاقته بجريدة الراصد مع مديرته التي رحلنا معها بهذا التجاذب الجنسي المحبب والذي اغدق في تفاصيله, ثم علاقته العاطفية مع زميلة له في الكلية, لنعود ثانية الى البؤرة الرئيسية للأحداث وهي حياة الغجر:
(توج الحاج سلطته على الغجر بزواج ثالث من الغجرية الجميلة اصايل ابنة شيخ عشيرة البوطحيمي أحد الشيوخ الاربعة، وبذلك أسقط آخر حاجز اجتماعي يعزله عنهم.
لم يكن بمقدور أحد من الغجر مراجعة دوائر الحكومة لعدم امتلاكهم الجنسية وبالتالي حرمانهم من حقوق تملك الأراضي والعقارات أو المطالبة بسحب خطوط الكهرباء وانابيب المياه وشبكة الصرف الصحي وغيرها من الخدمات التي تضطلع بها الحكومة، مما جعلهم تحت رحمة الحاج,يبتزهم ويفرض شروطه المجحفة عليهم كما يشاء, ويحلو له.) ص 49
ولم يقتصر أمر ابتزاز الحاج صالح لهم الى هذا الحد، بل أنه طلب نصف اجور حفلات الرقص والغناء التي تحييها كل اسرة غجرية ممّا أثار استيائهم، فشكوه الى شيوخهم الذين ترجو الحاج خفض الاتاوة.
أن الروائي أجاد عملية التبئير في حياة تلك القبائل,من خلال اسناد مهمة سرد الاحداث الى السارد الاول, كونه دخل بطون التاريخ وفتش عن الحكايات والاساطير فيها وضمنها متن النص.
وبعد نشوب الحرب العراقية الايرانية، وابداء هذه القبائل المواقف الوطنية صدرت الاوامر بمنح الجنسية لهم، فتغيرت حياتهم، وطالبوا الحاج صالح بإعادة عقاراتهم وصاروا يراجعون الدوائر الحكومية من اجل الخدمات، واستطاع شبابهم التنصل من الحرب بإقامة الحفلات والليالي الحمراء لكبارالضباط من اجل ان لا يزجوا في هذه المحرقة.
لقد إستطاع الروائي الامساك بثلاث محاور تشكل المبنى السردي لهذا النص، هو التاريخ لتلك القبائل، وحياتهم الممتلئة بالرقص والغناء والليالي الحمراء والاحداث المهمة التي حدثت لهم، واهمها حكاية النقيب الذي دخل الحي واراد ان يضاجع النساء, وعندما اتت احداهن اكتشف انها زوجته، وحدث لغط ورمي الامر الذي وصل الى القيادة العليا، فطوق الحي بمركبات لمسؤولين كبار، ثم يدخل شخص غريب ليسكن وسط الحي، بعدها يؤم المصلين للصلاة وحدثهم عن ضرورة تنظيف الحي من الفساد وطرد الغجر، واستطاع أن يؤجج اهالي المنطقة ليهجموا على حي الغجر ويطردوهم في العراء، أما ريما الغجرية فقد استطاعت أن تختبئ في بيت بطل النص لأنها تربت معهم،
(اهنئكم ونفسي بسقوط الطاغية، كنا نتمنى أن تكون نهاية الطاغية على ايدينا، لكن هكذا شاء الله، ولا راد لإرادته سبحانه وتعالى قدر أن يسقط الطاغية على أيدي الشيطان الاكبر، فليذهب هو والشيطان الاكبر لنار جهنم.
لا اريد الاطالة، فالوقت ليس وقت كلام، أدعوكم لتطهير مدينتكم، مدينة الزهراء، نعم هذا أسمها الجديد طهّروها من النجاسة والرذيلة، هبوا لطرد الغجر الانجاس منها، فهم كفرة زناة، نظموا انفسكم، تسلحوا لا ينقصكم شيئاً، الفتوى معكم والسلاح بأيديكم، أخرجوا لتبقى هذه المدينة مقدسة طاهرة، كما هو اسمها…) ص 115.
وهكذا شنت حملة كبيرة وقاسية لطرد الغجر من الحي، دون أن يحس أحدهم أبن يذهبون؟، وكيف يعيشون بلا مأوى، وما مصيرهم وهم بشر عندهم الجنسية،
(-قدر، نعم قدر، أيُّ قدر؟ أتذكر حينما كنا شباب في السبعينيات، يوم حدثتني أنا وخولة عن كين، جد الغجر، يومها قالت خولة: هذه أسطورة يعني خرافة لا تصدقيها، لا ليست أسطورة ولا خرافة، إنها لعنة، نعم لعنة كين، كُتبت علينا، نحن الغجر، توارثناها جيلاً بعد جيل، لا وطن دائمٌ لنا، نتيه في الأرض بين حين وآخر، ما يدمي قلبي، لماذا ندفع ثمن التاريخ الأسود لأجدادنا، ألا تكفي الآلآم والهجرات للتكفير عن خطايا كين وأجدادنا وجداتنا) ص 122.
رواية (لعنة كين) للروائي فوزي الهنداوي، ضمنت السياق الفني، لفن صناعة الرواية الحديثة، أضافة الى تضمينها مادة تاريخية مهمة دخلت ضمن مبنى السرد لتضع أمام الرأي حكاية قبائل الغجر وما لحقهم ولازال من ظلم وجور وتهميش، وظلوا رحالة مهجرين بدون وطن يأويهم، أو إعتراف بحقوقهم الذي هو حق يجب أن يعترف فيه، ليعيشوا حياتهم كما يعيش أي إنسان في وطنه، وبنسق فني متماسك ورصين وشيق وايقاع منسجم متزن لتدخل ضمن الروايات التي تحمل مضموناً تاريخياً.

من إصدارات دار اس ميديا للطباعة والنشر والتوزيع – بغداد – شارع المتنبي – عمارة الميالي لعام 2018

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة