فينيسيا – صفاء صنكور:
في فيلمه الجديد «نظرة الصمت»، وهو الفيلم الوثائقي الوحيد الذي يتنافس على الأسد الذهبي للمسابقة الرسمية للدورة 71 من مهرجان البندقية (فينيسيا) السينمائي، يواصل المخرج جوشوا أوبنهايمر مشروعه الذي بدأه في فيلمه السابق «فعل القتل»، بمزيد من الغوص والتحليل والبحث في قصص إبادة أكثر من نصف مليون من الضحايا في اندونيسيا بعد الانقلاب العسكري على سوكارنو في منتصف الستينيات، والتحول التدريجي للسلطة إلى الجنرال سوهارتو.
وقد يبدو التشكيك مشروعا، للوهلة الأولى، بالنسبة لمن شاهدوا «فعل القتل»، الذي حظي باحتفاء نقدي واسع النظاق، ورشح لنيل جائزة الاوسكار، وعده بعض النقاد أحد أفضل أفلام العام الماضي، في أن أوبنهايمر قد قال كل ما اراده في هذا الفيلم، ويصعب أن يخرج بجديد يوازي أو يفوق ما قدمه في الفيلم السابق من جماليات أو معالجة موضوعية صادمة.
بيد أن أوبنهايمر ظل يحفر في مادته وبتأن ونضج أكبر، ليقدم عملا فنيا رائعا، يضيف الكثير لسابقه ويعزز نهجه الفني القائم على تجاوز حدود النوع الفني (الجنره)، والمزج بين الروائي والوثائقي، وبين الواقعي والسريالي، وبين الجمالي والسياسي. إلى آخره من الثنائيات.
وإذا كانت ضربة أوبنهايمر الأساسية في الفيلم السابق هو عثوره على بعض قتلة الضحايا واقناعهم لإعادة تمثيل أفعالهم على وفق اسلوب الأفلام السينمائية التي يحبونها، وسط حس عال من السخرية السوداء، والرصد الدقيق والتحليل لدوافعهم النفسية وانماطهم السلوكية ودوافعهم لارتكاب هذه الافعال الوحشية، فإنه في الفيلم الجديد يعود إلى منظور الضحايا (عبر الناجين منهم وعوائلهم) مقابل منظور القتلة، ويجمعهما في مشاهد مشتركة لتذكر الحدث من منظورات متناقضة، فيستجوب القتلة عبر شقيق أحد الضحايا، ثم يرصد استجابات وردود أفعال الطرفين.
قتلة وممثلون
لقد كان العثور على أنور كوجو، أحد رجال العصابات الذي انتقل من المتاجرة ببطاقات السينما بالسوق السوداء ليكون أحد زعماء فرق الموت التي تولت تصفية الحزب الشيوعي الاندونيسي والمتعاطفين معه وبعض ذوي الأصول الصينية، ويفتخر بأنه قتل أكثر من 1000 منهم بيده، اكتشافا رسم مسار الفيلم الاول (كان اوبنهايمر وزميلته يعمل على أجراء مقابلات عن مجزرة منتصف الستينات في اندونيسيا لفيلم « اشرطة العولمة» عام 2003، عندما عثر مصادفة على كوجو ليغير مسار عمله ويصنع فيلما عن القتلة).
بيد أن العثور على أدي وعائلته هو الاكتشاف الذي اعتمد عليه فيلم «نظرة الصمت»، فأدي هو ابن جيل لم يشهد المأساة التي قتل فيها شقيقه، إذ أنه ولد بعدها بقليل، لكنه ظل يعاني من آثارها عليه وعلى عائلته، التي تعرضت للعزل والاضطهاد كغيرها من عوائل الضحايا أو الناجين من المجزرة الذين اضطروا لتغيير قناعتهم، مادام مرتكبي المجزرة هم المنتصرون الذين امسكوا بالسلطة وما زالوا فيها إلى يومنا هذا، فباتت المساهمة فيها مصدر فخر لهم داخل النظام القائم.
ويحرص اوبنهايمر على أن نخوض رحلة الاكتشاف والبحث عما حدث مع أدي، ولكننا في الوقت نفسه نتابع استجاباته وردود أفعاله، كما استجابات وردود أفعال القتلة الذين يلتقيهم في الجانب الاخر، فتبدو شهادات تنبض بالحياة عن حدث وقع قبل أكثر من نصف قرن وكل شهوده من الشيوخ والعجائز الان، ويقدم رصد حياتهم كبشر في شيخوختهم إلى جانب تذكرهم للحدث، موضوع الفيلم، عنصر قوة إضافي للفيلم.
ونرى هذه اللمسة الإنسانية العالية في متابعته للحياة اليومية لوالدي أدي، وهما من المعمرين، فالأب كما تقول زوجته اكثر من 103 اعوام والأم تجاوزت المئة أيضا، حسب تعبيرها. ويقدم عبر رصد تفاصيل الحياة الإنسانية بينهما، بعض اجمل وأكثر مشاهد الفيلم عذوبة وتعبيرا إنسانيا.
فنرى العجوز التي مازالت تحتفظ بقوة ما ترعى زوجها العجوز الذي يعاني من الخرف (الزهايمر) وفقدان ذاكرته، وتقوم بغسل جسده بيديها، العناية به. كما تتذكر بقوة ما حدث عند قتل ابنها الكبير، بينما ينعم الأب بالنسيان، ولايسترجع من تلك المرحلة سوى أغنية غزل يغنيها.
تقويم الرؤية
يسير بحث أوبنهايمر في الفيلم جنبا لجنب مع الحياة، فهو لا يصورها من الخارج بل هو جزء متفاعل منها، وليس واقعا فيلميا خارجيا. وذاك أهم عناصر اسلوب اوبنهايمر في مشروعه هذا في كسر الحدود بين الفيلم والواقع، الصورة ومادتها.
فتكتشف لشخصياته الكثير من الحقائق التي يكشفها بحث مخرجه وتنمو وتتصرف استجابة لها، على سبيل المثال اكتشاف الأم ان اخيها كان هو الحارس لمجموعة المعتقلين وبينهم ابنها قبل إعدامه، الأمر الذي تكشف في الفيلم عبر حوار أدي مع خاله، أو شخصية أدي الذي يتعمق وعيه وتزداد حدة استجاباته مع ما يكتشفه من خلال بحثه ومقابلاته في الفيلم.
واستثمر اوبنهايمر مهنة أدي، كتقني لفحص النظر وتجريب العدسات لتقويم النظر، في قيامه بزيارة عمل لتقويم نظر بعض من يزورهم من القتلة وشهود الحدث من كبار السن ومحاورتهم اثناء ذلك عن الماضي.
فتبدو تلك اللقطات التي يضع فيها أدي العدسات على أعين الشخصيات ويسألهم هل تغيرت رؤيتهم وماهو الفرق عن الماضي أو اللحظة السابقة، هي المعادل الموضوعي والاستعارة البصرية التي تختصر موضوع الفيلم عن رؤية الماضي وتقويم المنظور إليه.
كما يحرص المخرج على أن يرصد أدي في حياته اليومية مع عائلته الصغيرة المكونة من زوجته وطفلتيه، ويتابع تاثير اكتشافته عليه في فضاء عائلته. وفي مشهد رائع نراه يراجع الدروس مع ابنتيه ويستمع إلى البروبجاندا التي تبثها السلطة في كتبهم المدرسية ومنظورها عما حدث، عندما تنقل له ابنته منظور المعلم الذي يقول لهم إن الشيوعيين أشرار، كفرة، لا يؤمنون بالله، مشاعيون يتبادلون زوجاتهم وقساة القلوب، مبررا ما حدث لهم من ابادة.
ويواصل الفيلم عبر ادي استجواب القتلة (ورصد الاستجابات العفوية لكلا الجانبين)، فنراهم في بداية المقابلات يفتخرون بما فعلوا، ويصفون أفعالهم الوحشية وكأنها بطولات: أحدهم وهو عجوز برفقة ابنته، يقول إنه كان يشرب دماء ضحاياه لأن ذلك يجعله يحتفظ بعقله ولا يتعرض للجنون، ويصف العملية بسادية واضحة، بينما ينظر إليه أدي بنظرة صامتة، لكنها محملة بالكثير من الأسى ولا تظهر ما يعتمل في داخله من غضب او اشمئزاز او انفعال.
هي نظرة الصمت التي استعار الفيلم منها عنوانه، ورصدناها في أكثر من لحظة على وجه أدي كما هي الحال في اللقطة التي ترصده الكاميرا فيها وهو يشاهد شريط حديث قاتلي أخيه عن جريمتهم البشعة، لا رد فعل خارجيا منه بل نظرة صمت عميقة.
بيد أن لهجة الفخر تلك سرعان ما تتغير عندما يُسألون عن المسؤولية أو التقييم الأخلاقي لاعمالهم، لتظهر إجابات مناورة، لكنها تظل في الوقت نفسه مصحوبة بنزعة للانكار وتجاهل الاعتراف بالذنب او المسؤلية الاخلاقية. أحد القتلة يقول «إذا كانوا اناسا سيئين، ستقطعهم أربا»، آخر يرد على ادي «اسئلتك عميقة جدا، وانا أكره الاسئلة العميقة».
عودة إلى الوثائقي
في «نظرة الصمت» يبدو أوبنهايمر أكثر اخلاصا للفيلم الوثائقي التقليدي من فيلمه السابق «فعل القتل»، الذي وضع فيه العديد من المشاهد التمثيلية الخيالية بل والسريالية احيانا، فنراه يعتمد اسلوب المقابلة، ويلتقط تفاصيل من الحياة اليومية لشخصياته، ولا يتدخل كثيرا في إعادة تجسيد الحدث كما فعل في فيلمه السابق، بل يترك بنائه لخيال المشاهد بناء على شهادات شخصياته.
كما حرص أوبنهايمر على أن يقدم بعض المقاطع الوثائقية الارشيفية من التغطية الإخبارية للمجزرة في اندونيسيا، عبر تغطية مراسل تلفزيوني امريكي في حينها. ليظهر مدى التجاهل الذي تعامل فيه العالم، ولا يزال، مع هذه المأساة الانسانية، فضلا عن الدور الامريكي في دعم النظام الذي قام بها، وانكارها، و»مساهمتها في تجاهلها» وهو ما ظل يكرره في الكثير من مقابلاته.
نجح مدير تصوير الفيلم لارس سكري في استخلاص مشاهد على قدر كبير من الجمال في البيئة الاستوائية التي صور فيها الفيلم، فضلا عن قدرته الرائعة وبراعته في تحريك كاميرته في الحوارات بين الشخصيات والتقاط مشاعر واستجابات شخصياته في لقطات قريبة مميزة.
حمل الفيلم أيضا توقيع المخرج الالماني الشهير فيرنر هيروزج ومخرج الأفلام الوثائقية المعروف أيرول موريس بوصفهما منتجين للفيلم، وسبق بهما أن شاركا في انتاج فيلم اوبنهايمر فعل القتل، بعد مشاهدتهما جزء مما صوره في اندونيسيا.
وأوبنهايمر هو مخرج أمريكي من مواليد تكساس عام 1974، اختار الانتقال والعمل في الدنمارك، وأخرج أكثر من 10 أفلام وثائقية قبل ان يخرج فيلم «فعل القتل» عام 2012 ، وهو مشروع بدا العمل عليه منذ عام 2001، وأكمله في فيلمه الجديد «نظرة الصمت».
ومن أفلامه السابقة «تلك الامكنة التي تعلمنا أن نسميها وطنا» و»تحدي التصنيع» و»التاريخ الكامل لصفقة لويزانا» الذي حصل عليه على الجائزة الذهبية في مهرجان شيكاغو السينمائي الدولي 1998.
لاشك أن خلف الفيلمين الأخيرين جهد واضح لمخرج مساعد اندونيسي، على خبرة كبيرة ببلاده، ظل اسمه مجهولا لأسباب أمنية، فضلا عن أكثر من 40 فنيا اندونيسيا اشتركوا في انجازه (امتلأت قائمة اسماء العاملين في نهاية الفيلم بكلمة مجهول)، فكثير من رموز تلك المرحلة التي تناولها الفيلم ما زال لهم نفوذهم في السلطة ويخشى انتقامهم من العاملين فيه.
وهذا الأمر كان مبعث انتقادات وجهت لمخرجه في استغلاله لشخصياته والعاملين فيه على الرغم من المخاطر التي قد تتهدد حياتهم بسبب فيلمه.
لا يحفل اوبنهايمر بتقديم أي معلومات عن السياق التاريخي للحدث الذي يتناوله، أو تقديم أي تحليل في سياق ايديولوجي معين لما حدث، ففيلمه عن الحاضر بالدرجة الاساس، وعن الإنسان ودوافعه، عن العنف والذاكرة والاعتراف بالذنب والتسامح، وكل تلك المشاعر المتناقضة التي تصبح تراجيديا الماضي مدخلا لرصدها وتحليلها والبحث في اسبابها.