يموت في الماء فقط !

فما اسمُ شيء يؤكل ليس لديه ارجل … له قشور تلمع مدورات اجمع …يعيش في الماء فقط حروفه بلا نقط ؟
لست ادري لم تذكرت هذه الابيات الشعرية التي حفظناها من القراءة الخلدونية في المدرسة الابتدائية وهي للشاعر الحلي باقر سماكة المولود في مدينة الحلة عام ١٩٢٩ وعاش بالقرب من نهر الفرات .. ربما تذكرتها لان الشاعر من الحلة ، والقصيدة عن السمك ، وعاش بالقرب من نهر الفرات ، فضلا عن العلاقة بين اسم الشاعر (سماكة) وموضوع القصيدة ، وأنا اتحدث عن سمك الحلة الذي نفق في نهر الفرات ، فقلت ربما من المناسب ان نحوّر قليلا فيما قاله الشاعر ، فنقول (يموت في الماء فقط) !!.. اذ المعروف ان السمك يموت عندما يخرج من الماء ، لذلك فان المثل الشائع يقول ، فلان مثل السمك اذا خرج من الماء يموت ، كناية عن الاندماج الكبير في البيئة التي يعيش فيها الانسان ..
نعم لقد مات سمك الحلة وهو يسبح في نهر الفرات ، المعروف بعذوبة مائه وارتفاع نسبة الاوكسجين المذاب فيه ، الامر الذي يمثل بيئة جيدة لتكاثر الاسماك ، ولهذا نجد ان السمك العراقي ذو طعم مميز ورائحة شوائه لاسيما (المسگوف) منه ، تجعلك تشتيه وان كنت تعاني من التخمة ، ..
ان قضية نفوق الاسماك في الاحواض التي يحتضنها نهر الفرات في منطقة المسيب ، تثير الكثير من التساؤلات والاستفهامات الكبيرة ، لأنها ظاهرة غير مسبوقة ، وتمثل ضربة قاصمة للاقتصاد العراقي ونحن نتحدث عن ملايين الاسماك النافقة التي شاهدناها مكدسة في النهر في مشهد مرعب ومؤلم جدا .. والأكثر ايلاما من ذلك هو مشهد المربين الذين اصابهم الذهول حد التبلّد ، وهم يشاهدون اسماكهم التي سهروا وتعبوا وخسروا كثيرا على تربيتها ، تموت هكذا من دون سبب مقنع ..
المصيبة ان ظاهرة نفوق الاسماك وبهذا الحجم الهائل ، جاءت بعد ان اعلن العراق اكتفاءه الكامل وهذا يتضح من خلال انخفاض الاسعار بنحو كبير خلال السنوات الماضية ، ما مكن العائلات الفقيرة من اكل السمك الذي يمثل مادة غذائية مهمة للإنسان ، وكان من المؤمل ان يتمكن العراق من تصدير الاسماك الى دول اخرى ، ولكن اعتقد بعد الذي حدث ، فإننا نحتاج الى وقت ومدة اخرى لاستعادة ما كنا عليه ..
ومن المؤلم ايضا ان ما حدث في الحلة اصبح مادة دسمة لإثارة الكثير من القضايا ذات الصلة بالصراعات السياسية سواء الداخلية او الخارجية ، وعلى مدى ايام قلائل سمعنا وقرأنا الكثير من القصص والتحليلات والتفسيرات التي لا تبتعد كثيرا عن تلك الصراعات .. وهنا لست بوارد استبعاد نظرية المؤامرة ، لأقول ان ما حدث هو امر رباني ، لا ابدا ، فأنا مثل الاخرين تراودني شكوك قاسية بطبيعة ما جرى ، من دون ان اغفل ما تحدثت بها الجهات المعنية (الزراعة – الصحة – الموارد المائية) التي ذهبت الى ان السبب وراء ما حدث هو الاكتظاظ الكبير في اعداد الاسماك والأحواض مع انخفاض مناسيب المياه ما ادى الى حدوث حالات اختناق نتيجة (تعفن الغلاصم) بما يشبه الانفلونزا ، يعني (انفلونزا الاسماك) على غرار انفلونزا الطيور !!..
وهنا اقول ، ان ما حدث ، قد حدث ، بصرف النظر عن الاسباب سواء أكانت نتيجة مؤامرة او تنافس تجاري او بسبب طبيعي ، فإن علينا ان نتحرك بسرعة على مسارين ، الاول هو معالجة ما حصل والتخلص من الاسماك النافقة بنحو صحيح لكي لا نتعرض الى مشكلات بيئية نحن في غنى عنها ، وفي المسار ذاته ، ينبغي التحري عن الاسباب التي ادت الى حدوث الكارثة ، ومعالجتها ، امنيا ، او طبيعيا ، لان عدم معالجة الاسباب يجعل احتمال تكرار المشهد قائما ! .. اما المسار الثاني ، فيكون عبر محورين ، الاول وهو الاهم ، وجوب تعويض المتضررين ، بقطع النظر عما اذا كانوا مخالفين وغير ملتزمين بالتعليمات القانونية والفنية في انشاء احواضهم ، لأننا نتحدث في نهاية المطاف عن ثروة بلد تعرضت لضرر كبير وتمثل ركنا مهما من اركان القطاع الزراعي ، وهي ثروة مدرة للدخل والغذاء ، فالتعويض هنا لا يمثل خسارة بقدر ما سيكون اثره اقتصاديا مهما ، وفي المحور الثاني ، على الجهات المعنية معالجة جميع المشكلات المرتبطة بأحواض تربية الاسماك ، ومنها وجوب الحصول على اجازة ، لان المعلومات تقول ان هناك مئات الاحواض غير حاصلة على ترخيص قانوني ، وبموجب هذا الترخيص تتم متابعة المربين وشمولهم بمكافحة الامراض والالتزام بأعداد الاسماك الموجودة في الحوض الواحد ، وتحديد صنف وكمية الغذاء ، واستعمال بعض انواع الاسماك التي تلتهم النباتات السامة التي تنمو في الاحواض ..
كل هذا لكي تبقى اسماكنا واسماك باقر سماكة تعيش في الفرات وقشورها تلمع ، مدورات اجمع ، من حاجة حروفها الى نقط !!
عبدالزهرة محمد الهنداوي

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة