لم تهدأ الإحتجاجات والمطالبات بالحقوق والخدمات بعد ما حصل بالبصرة، بل من المتوقع أن تتصاعد وتتجدد، بعد أن أخفق النظام السياسي في العراق بحكومته وأحزابه، وقُواه السياسية في تلبية الحدّ الأدنى من مَطالب الشعب العراقي وحقوقه الأساسية.
إذ شهد العراق منذ عام ٢٠١٢ ولغاية الآن عدة مشاهد للتظاهرات، برغم الإختلاف في الهدف ما بين مذهبي، وقومي، وسياسي، إلا أن هنالك ثغرات جوهرية دافعة للتظاهر لا يمكن إنكارها، إذ كانت إحتجاجات ٢٠١٢ مرتبطة بحراك الربيع العربي، وفي تظاهرات الموصل والانبار كانت مرتبطة بصراعات سياسية وإحتقانات طائفية، ثم تظاهرات قطاعية في عامي ٢٠١٥ و٢٠١٦ بين مدنيين وإسلاميين تارة يلتقون، وتارة يتخاصمون، تراوحت بين الإرتباط بالخدمات، أو الإرتباط بجهات سياسية أرادت أن تثبت حضورها في الشارع وتطالب بالحقوق والخدمات، كذلك في الشمال، حيث شهد إقليم كُردستان إحتجاجات ذات طابع سياسي واقتصادي ينم عن تآكل تجربة الإقليم في تقديم مشروع قومي كُردي سياسي واقتصادي، يطمأن إليه الأكراد.
أما التظاهرات والإحتجاجات التي انطلقت في البصرة ومحافظات الجنوب الأخرى، أرتبط بإصلاح العملية السياسية، ومكافحة الفساد، وأول معنى لهذا الحراك الإحتجاجي في البصرة، أنه ليس مذهبيا وطائفيا وقومي الدافع أو التوجه، إذ مثّلت إحتجاجات البصرة ظاهرة وحراك شعبي عابر للطائفية وضدها، التي يعتقد الساسة أنها الأوكسجين الذي يمدهم بالبقاء، إذ لم يعد استمرار الإحتماء بالطائفة مشهدا مقبولا لإسترضاء الناس سواء في الانتخابات، أو في تشكيل الحكومة، وإنما يرتبط بتراجع وتدهور مستويات المعيشة اجتماعيا، وفشل المنظومة السياسية في الإستجابة لتلك المطالب، فما حصل في البصرة أنبثق عن ظروف سلبية فعلية جسدت المعاناة التي لم يعد ممكنا السكوت عنها، ولا يمكن التعايش معها، هذه المعاناة ناجمة عن نظام سياسي يعاني من معوقات بنيوية أساسها المحاصصة الطائفية والسياسية في السلطة التي أهتمت بإطار ضيق لمصلحة أحزاب، وجماعات، ودول على حساب حقوق الشعب العراقي، فما كان إلا أن تتهالك مقومات الحياة من ماء، وكهرباء، وصحة، وأمن، وفرص عمل.
إذ أجهز الهدر والفساد واللامبالاة على أي فرصة لتقويم النظام السياسي الذي بُنيَّ بُنية مأزومة، بلا أي قدرات أو فرص ومستلزمات تجعله قابلا للإصلاح والتطوير، بل بقى هذا النظام في حالة تراجع غير معقول، بفعل الطبقة السياسية التي تركت المواطن على الهامش غير مستفيد من الثروة الكبيرة التي يتمتع بها العراق من نفط، وزراعة، وصناعة، وسياحة.
ما يقلق العراقيون أن هذا النظام والقائمين عليه عاجز وبشكل عقيم من احتواء المطالب والسخط الشعبي، وغير قادر على اجتراح الحلول وتجاوز المعوقات وتقديم المعالجات للأزمات المتفاقمة.
الفشل الواضح الذي انتهت إليه القوى السياسية بما حدث في البصرة، أثبت أن النظام السياسي في العراق، يورث الأزمات، وأحرجت البصرة كامل النظام والدولة والأحزاب والزعامات، إذ نفذت معركة تشكيل الحكومة في أزمة البصرة، وأتضح أنها القضية الحساسة والأهم للأحزاب على اختلاف توجهاتها، كما أتضح أن التدخلات الإقليمية والدولية حاضرة برغم سيلان الدم العراقي، فالفشل السياسي الذي فرضته الأجندات الخارجية على الطبقة السياسية لا يمكن تغطيته بالشعارات أو الوعود والحلول الترقيعية، ويؤشر بنحو واضح على سقوط ثقة العراقيين بالعملية السياسية والأحزاب التي غلبت أجنداتها على أولويات الشعب.
الخطورة في العراق وما حصل في البصرة ومحافظات أخرى، تكمن في تقويض الثقة بالسياسة والساسة والدولة، خصوصا عند شريحة الشباب وهم القوة الرئيسة لبناء أي مجتمع وتقدمه، وهذا تجسد بمهاجمة المحتجين مقار الأحزاب والمؤسسات الحكومية، فإن درجة المعاناة في العراق من فساد محمي بالمحاصصة والأجندات الخارجية كانت مبررا للاندفاع القوي عند المواطنين مما شكل استعصاء في احتوائه، واتجهت بوصلة الأحزاب نحو تشكيل حكومة جديدة يؤشر تأخيرها وإستدارة مسارات التحالفات وتموضعها، إلى إعادة تكريس ذات المعوقات البنيوية الدافعة لحل أزمات النظام السياسي العراقي.
لا تخلو أيّ تجربة سياسية وليدة من أزمات ومشكلات في بنود الدستور والقوانين، ولكن يجب أن تدعم هذه العملية السياسية عبر ساستها، بتشكيل حكومة قائمة على أساس المؤسسات وتكريس سلطة حقيقية للقانون والمساءلة، بحيث تصبح هذه الحكومة قادرة على احتواء الأزمات وتطوير النظام السياسي بدعم نخبوي وشعبي حيوي فاعل.
المعالجات تبدأ بحكومة قادرة على تنضيج أُطرٌ سياسية واقتصادية قادرة على استقطاب المواطنين ومغادرة الانقسامات الطائفية والسياسية لتمييع المطالب الحيوية. وأيضا بناء مؤسسات رقابية محايدة ومهنية غير مسيسة لمكافحة الفساد، وجودة الإدارة وترسيخ المساءلة والمحاسبة، لو تمكن المنشغلون بتشكيل الكتلة الأكبر من ذلك، لوضعوا صمام أمان للعملية السياسية، ولأنعكس ذلك على النظام السياسي وتقويته بعناصر القوة والنهوض بالمجالات كافة.
ومن المعالجات أيضا، تبدأ الحكومة من وضع مصدات وكوابح لما يحدث من تدخلات إقليمية ودولية، والتفاعل معها وتوظيفها في دوامة الصراعات السياسية، ومنها معركة تشكيل الحكومة في كل دورة إنتخابية.
وأيضا في إطار البحث عن الحلول، لابد أن تبادر شرائح المواطنين على إدامة زخم الحراك وتطوير الأساليب الإحتجاجية السلمية في كل مرة تشعر بالظلم وإضاعة الحقوق وانحرافا سياسيا نحو الفساد.
كما أن أحد أهم الحلول، أن تعي الطبقة السياسية خطورة المرحلة، وأن تفهم هذا الحراك قد يتمخض عنه مسارات تجهز على وجودها وبقائها، فعليها أن تكون أحزاب سياسية ناضجة قادرة على تمثيل الشعب العراقي تمثيلا سليما وصادقا، وأن تتموضع هذه الأحزاب بأغلبية واسعة قادرة على رد حقوق المظلومين والمهمشين، وعليها أن تمتلك وعيا سياسيا حقيقيا وتغادر الإندفاعات الإنفعالية وتصفية الحسابات السياسية كما حصل في البصرة وما يحصل في سياقات تشكيل الحكومة الآن، وأن تبحث عن بداية طريق إلى تغيير سياسي واقتصادي واجتماعي يلامس طموحات ومطالب المواطنين وحقوقهم، أو في الأقل يشعرهم بذلك عبر المحاولة وإن كانت الفرص محدودة جدا، خاصة إذا ما عادت خيارات الإلتقاء الطائفي والتناحر على المناصب والمنافع وترك المواطن في رحم المعاناة.
مركز المستقبل للدراسات والبحوث