يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 39
حوارات مع جرجيس فتح الله*
س: ايمكنكم افادة القراء بشيء عن هذا النظام ؟ ذكر لنا (القزاز ) استخدمه لتحطيم نفوذ بعض الرؤساء العشائر والاقطاعيين في اقليم بادينان , وكذلك كتدبير لوقف اعتداءاتهم على السكان . كيف كان ذلك؟
كان نظام الدعوى الذي العشائر الذي استن في اوائل الثلاثينيات , واحدة من قوانين الشاذة اللادستورية التي بقيت مصدر انتقاد وشكوى منا نحن الحقوقيون ومن دعاة الاصلاح من السياسيين فقد شرع بالاصل لقائدة رؤساء العشائر ولحماية الاقطاعيين بموجبه منح وزير الداخلية والمتصرفون , اومن يخولهم الوزير سلطة قضائية تعادل سلطة حاكم جزاء من الدرجة الاولى لفض النزعات والجرائم التي تحصل بين رجال العشائر وفقا ً للتقاليد والعادات المنيعة . وكانت مصدر الشكوى منه انه يؤدي الى تدخل سافر للسلطة التنفيذية بالجهاز القضائي وسلب جزء من سلطتها .كما يبقى الى الابد حالة قسمة المجتمع العراقي الى طبقتين اجتماعيتين : الريف والحضر فضلا ً عن انه يقضي الى احلال نوعين من العدالة في البلد الواحد . كانت الاصوات ترتفع حيناً بعد حين بوجوب الغاء هذا النظام الى ان قضت عليه ثورة او (انقلاب) الرابع عشر من تموز . في عين اليوم الذي نشرت الدستور المؤقت واعتقد انه كان في 27 منه . اقول ربما لمرة واحدة في تاريخ هذا النظام تم تطبيقه بيد(القزاز) بروح من العدالة الصارمة ووفقاً للمصلحة العامة , بحق عين اولئك الذين اشترع النظام لحمايتهم والمحافظة على نفوذهم وموطن العجب العجاب انه جعل اصواتنا ترتفع بالثناء على هذا النظام الكريه .
قلب (القزاز) طراز تطبيق النظام راساً على عقب واستخدمه سيفاً سلطاً على رقاب بعض رؤساء عشائر والاقطاعين من بادينان , بعد امد بهم امد العبث والازدراء بالقانون وكثرت اعتداءاتهم على الاهالي من نهب الاغنام , الى ضبط الاراضي الى اغتصاب النساء وهتك الاعراض . جاء بهم (القزاز) مكبلين واودع السجن بعظهم واثقل بعضهم بغرامات من مال وسلاح وسحق عنجهيتهم وداس على هيبتهم وهزا بما ملكوه من سلطان . وبعظهم كان عضوا من مجلس النواب .
اربعة او خمسة منهم خرج(القزاز) وراء احدهم في قلب منطقته وليس معه غير العريف الشرطي (جورج) وكان المطلوب قد اعد له مظاهره مسلحة من اتباعه , فلم يعبأ بها واستله منهم كما تستل الشعرة من العجين واركبه مكبلاً سيارة مكشوفه وجاء به ليثقله بحكم بالسجن وبغرامة فادحة .
وتقصد بأن اشهد طرفاً من محاكمة اقطاعي كبير النفوذ هو “احمد رشيد” امبر البروار كما كان يعرف به . القاه في السجن ثم اجرى محاكمته . وكان احمد رشيد بك )صلفاً , وفخر مما فخربه بأنه يحمل وسام الرافدين , واذ ذاك عصف الغضب القزاز وكأنه تذكر به امراً فخرجت من فمه عبارة ماصدقت اذني ان سمعتها – عبارة لو قالها غير (القزاز ) لما نجا من طائلة عقاب بتهمة الطعن بالذات الملكية وكان (احمد رشيد ) يعرض بها بالمناسبة التي قال عنها وسام الرافدين . ولاذكر بالمناسبة ان كل اولئك الرؤساء الذين طالتهم يد (القزاز) وقتذاك كانوا من زعماء (الجاش) الذين جندتهم السلطة لمواجهة الثورة الكردية في العام 1945, وان (احمد رشيد) كان بين الرؤساء الذين كوفئوا بالوسام .
وتمر سبعة اعوام لتأتي المحكمة التي جاءت بها ثورة 14 تموز بواحد من هؤلاء العشائريين شاهدا على (جرائم) (سعيد القزاز ) وقف (ديوالي اغا دومكي ) يصف لمحكمة المهداوي مالقيه من ظلم على يد القزاز ) ومواطن المفارقة هنا ان واحدا ً من الاهداف التي قامت عليها تلك الثورة هو القضاء على نفوذ العشائري والاقطاعي.
س: من الشهود الذين تقدموا بالشهادة ضد اصدقاء صميمون لكم : عزيز شريف , توفيق منير , كامل قزانجي , اليست هذه مفارقة؟
اذا كنت قادرا وقاصر على انشاء علاقة صداقة وثيقة مع مجموعة موحدة خلقاً وطبائع وعقيدة فأنت والحق يقال من طينة غير طينة البشر من كوكب اخر غير هذا الكوكب اما حصل لك ان اخبت او صادقت او استخلصت لنفسك اضداداً؟. وفصائل يقتصر اليها الاولون . افيكون من القتلة او الحكمة ان تضحي بعلاقة مثمرة لك معهم في سبيل الاحتفاظ بعلاقة الفريق الاخر المصيبة عندنا هي اننا وبضغط الاجواء السياسية العكرة بالزوابع والاعاصير , صرنا نبني صداقاتنا بتسرع وضيق افق اسس المشاركة في العقائد والاتجاهات السياسية . وهي في الواقع العملي او هي اسباب العلاقات الشخصية واقلها دوماً لااريد الاطالة فيما اعده من البديهيات . واعود الى اصل السؤال فأقول : لو انك دققت شهادات هؤلاء الثلاثة وهم محامون متمرسون ومثقفون ذو مستوى رفيع يزنون عباراتهم ولا يطلقونها على , لرأيت انهم في الواقع يقصدون ادانه قانون اسقاط الجنسية كان واحداً من جرائم الطبقة الحاكمة الشنعاء في العهد الملكي ونحن حق من حقوق المواطنة .
ولعلمك ان القانون قد شرعته في العام 1933 حكومة (رشيد عالي الكيلاني )ووزير داخليته (حكمت سليمان ) لغرض اسقاط الجنسية العراقية عن البطريرك الاشواري (مار شمعون ايشاي ) ونفي من اعوانه واعضاء اسرته ونقلهم فواراً خارج العراق اثر مذابح اب , وان القانون عينه طبق على لفيف من القوميين المعروفين بقرار من وزارة (جميل المدفعي ) في العام 1941 , وشمل ممن اذكر المفكر القومي ساطع الحصري والسياسي احمد قدوري والاستاذ درويش المقدادي . سيقوا مكبلين بالسلاسل الى الحدود السورية وفي العام 1954 وبمقتضى قانون نفسه مع تعديلاته كان اسقاط جنسية هؤلاء وغيرهم تم بقرار من مجلس الوزراء برمته . اعضاء الوزارة من الاحياء الذين ادركوا سته من اصل ستة عشر وقعوا قرار اسقاط الجنسية , لم يقدم احددهم الى المحاكمة كالقزاز , احدهم وهو (رشيد عالي ) الذي شرع هذا القانون البغيض كان وقتذاك موضع تجلة واكرام من ضباط الثورة بوصفه بطلاً قومياً . كما ان عبد الكريم قاسم قد قام شخصياً بزيارة جميل المدفعي وهو على فراش المرض ,وهو الذي شرع قانون مكافحة الاراء الهدامة السيئة الصيت , وتركت لحكمة سليمان الحرية الواسعة رغم وجود قانون الاصلاع الزراعي ليضارب بأراضيه الواسعة ويكسب منها الملايين في ظل الثورة وحمايتها .كانت هذا الاسماء البغيضة تتراقص امامي وانا اصغي لسعيد القزاز يتلو دفاعه ليبلغ بهذه العبارة .
“اني الان , وارى الموت مني قاب قوسين او ادنى , فلا ترهبني المشنقة , وعندما اصعد عليها سأرى الكثيرين ممن لايستحقون الحياة تحت اقدامي “.وسمعت المحامية التي تدب للدفاع عنه – ففتشت عن موضع اخبئ فيه راسي خجلاً وعاراً يقول هذا المحامي بكل ماوسعه من دناءة وحطة نفس :
” ياقضاة الشعب ان المتهم استجار بي فأجرته ويعلم الجميع اننا امة ابت اخلاقنا الا ان نجبر من يستجير بنا , ولو كان عدوانا او لنا واياه دفين , وليتني لم اكن محامياً لكي لا اصدع ابتداء الواجب , فاضطر الى الدفاع عن هذا المتهم او عن امثاله . وانت ايها المتهم لاتتوقع ان اطلب لك البراءة او ان اطلب لك البراءة او ان اطلب لك الرحمة . فانني لم ات الى هذا المكان لافعل هذا او ذاك وانما لأبين للرأي العام والمحكمة حكم القانون ” .
وعند ذلك يثبت امر في نفسي .
كانت محكمة المهداوي قد استدعتني لاداء الشهادة في محاكمة (عبد الجبار فهمي ) متصرف بغداد عن وقائع التوقيفات اللاقانونية التي اقدم عليها ايام كان مدير شرطة الموصل في العام 1948بمناسبة الانتخابات العامة وبما ملكه من صلاحية اودعها اليه قائد القوات العسكرية في كركوك وأثناء سريان الاحكام العرفية لم اصح لأحد بما تنويه خشية محاوله التأثير على قراري وانتهزت فرصتي في موقف الشهادة لأقول عن (القزاز)مالم يجرأ احد عليه تقدمته للملايين يغير الصورة التي تراد له غير مبال بالعواقب :وانك لتجد من شهادتي ي الصحيفة (2008) من الجزء العاشر وقائع محكمه المهداوي هذا المقطع قلت :-
“اذكر ايضا عندما كان السيد سعيد قزاز متصرفاً للواء الموصل احتاج احد معاوني الى شهاده حسن السلوك وكانت الشرطة تمتنع عن اعطائه هذه الشهادة فذهبت به الى المتصرف القزاز وأفهمته بالمسألة قلت له ان هذا الشخص كان موقوفاً في عام 1948
اجابني راساً : انني كنت متصرف كركوك عندما سمعت بتوقيفات انتخابات 148 صار عندي عاده ان اذهب يومياً الى النادي العسكري لاتصال بالعسكريين واقول لهم ارفقوا بالموصليين لانهم ضحايا حقد فرد واحد هذا بالضبط ماسمعته من السيد سعيد (القزاز)
واتيت اقول للصحيفة 2802
“كان احد اصدقائي وهو الدكتور موسيس ديرهاكوبيان قد وضع كتاباً عنوانه (حاله العراق الصحية في ربع قرن) وقد رشحه نفسه للنيابة في 1948 أثناء الانتخابات هاجمت الشرطة المطبعة فجمعت الكتاب (وقد كمل) اذ صدر امر بمصادرته ولم نكن نعرف أن للمتهم مدير الشرطة ضلعاً في ذلك الا بعد ثلاث سنوات عندما اصلعنا على تقرير المتهم (عبد الجبار) عن الكتاب وكيفية ذلك اني في 1951 راجعت متصرف اللواء سعيد قزاز طالباً الافراج عن التاب قال المتصرف سأبعث بطلب نسخه وادرسه ويعد مده دعائي المتصرف وقال لي بالحرف الواحد :قرأت الكتاب والتقرير الذي رفعه مدير الشرطة (المتهم)تبريراً
لو وجب مصادرته فوجدت الاسباب التي ذكرها هي التي تبرر انتشار هذا الكتاب وامر فوراً بإلغاء أمر المصادرة وعاده الكتاب الى صاحبه وذهبت وتسلمت النسخ وكانت في مديرية الشرطة”.
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012