يتناول كتاب “الديمقراطية في أميركا” للباحث والخبير شبلي ملّاط، ظاهرة مهمة للغاية على الصعيد العلمي وعلى الصعيد السياسي، ألا وهي تشريح العملية الديمقراطية، وتشريح النظام الديمقراطي، ولعل أفضل طريقة لإنجاز هذا الهدف المهم في عالمنا وفي بلدنا الباحث بلهفة عن انموذجه الديمقراطي أنه يرتكز على دراسة حالة عيانية مهمة وهي حالة الديمقراطية في الولايات المتحدة.ومن القضايا المهمة في هذا الكتاب ارتكازه الى واحدة من أهم المرجعيات في الدراسات الديمقراطية أليكسس دي توتكيفل الذي يعدّ أهم المراجع المتاحة لدراسة هذه التجربة.
وكذلك تكمن أهمية الكتاب في أنه يشير الى التحولات الجديدة في العالم الراهن وهي تحولات لابد من وضعها في إطارها التاريخي والإنساني.وهو أيضا يرسم الطريق لمجتمع بلا عنف، ومجتمع يرتكز على التعاون والتفاهم الإقليمي المرتكز على نشر قيم المساواة، ومحاربة الفقر، ونبذ الاستغلال الاقتصادي للشعوب.
كما أنه يتيح للقارئ إدراك إمكانية خلق نظام عالمي واسع من دون أوهام التسلط الإمبريالي أو الدكتاتوريات الأيديلوجية، ويعلي بشكل كبير دور العدالة والقضاء في تنظيم التوازن الاجتماعي وتعزيز القيم الحضارية والانتصار للعدل والحياة.
تنشر “الصباح الجديد” حلقات من هذا الكتاب كإسهام في تعميق الجدل والمعرفة وتوسيع دائرة العلم بالمناهج والمراجع الضرورية للعملية الديمقراطية بنحو عام وفي العراق بنحو خاص.
الحلقة 6
شبلي ملّاط:
ومن المأثر الاخرى في علم الاجتماع الاكبر macro-sociologie الذي اسسه روبير فوسار تذكيره بأن الارقام الاقتصادية “الصرفة” ليست في مستوى الترفع العلمي الذي تخاله لنفسها. وخلافا للناتج الاقتصادي واخواته، فأن الاحاطة الدائمة بالمصالح الاجتماعية المتضاربة بين فئات المجتمع هو مطلب ضروري لفهم اية معادلة اجتماعية، وعلى النظرية ان تشد الانتباه دائما الى تحذير جيمس ماديسون madison المبكر من “الفئات التي تتحد وتعمل بفعل حماس مشترك، او مصلحة مشتركة، في اتجاه مخالف لحقوق سائر المواطنين وللمصالح المشتركة في المجتمع” فمن غير المجدي نفي حقيقة النزاعات الطبقية التي تمت دراستها في افضل المؤلفات عن الرأسمالية في القرن التاسع عشر، وقد استقر التقدم في التاريخ على المحاولات الدائبة لتخطي النزاعات الراسخة فئويا وطبقيا، ونتيجة هذه المحاولات ما تزال تشكل هدفا مشروعا للاصلاح واذا كان شبح كارل ماركس قد زال مع زوال الشيوعية، فمن المستحسن استحضار قوله المأثور “بأنه هو نفسه لم يكن ماركسيا” لأهمية مساهماته الجبارة لأكثر من سبب بما فيه الاخطاء التي تعتريها في محاولة فهما العلمي للنظام الرأسمالي.
ومن باب هذا التقصير البناء اخفاق كارل ماركس في فهم الظروف التي وضعت الولايات المتحدة في الصدارة العالمية، والتي تتمحور حول كيفية صياغة العلم لتقدم الامم الاقتصادي ودوره الاساسي فيها. ومن باب الفكر الرائد في تطوير هذه الابحاث عمل دانييل بل Daniel bell، الاقتصادي وعالم الاجتماع البارز في جامعة هارفرد، الذي يسد هذه الثغرة في كتابه عن “المجتمع مابعد الصناعي” الصادر سنة 1973. فقد حاول بل الاحاطة بمعالم التأثير التكنولوجي والعلمي مستشهدا بأعمال الاقتصاديين الكبار امثال روبير سولوف solow ورالف لنز lenz “ان المعيار العام المتفق على اتباعه لقياس التغيير السنوي لانتاج العامل في الساعة الواحدة او مايسميه الاقتصاديون مؤشر الانتاجية الجزئي-partial productivity index . ويتم الحصول على هذا الرقم بتقسيم القيمة السوقية للسلع والخدمات المنتجة في السنة (في الاقتصاد عموما، او في قطاع صناعي محدد) على عدد ساعات العمل الفردية التي استنفدت لانتاجها. والانتاجية في هذا التحديد لا تسمح بمعرفة ما اذا كانت الانتاجية المضافة هي نتيجة ادخال الات جديدة او ما اذا جاءت نتيجة تكثيف نمط العمل في مركز الانتاج. ومع ذلك فأذا اردنا الجواب عما اذا كان التغيير التكنولوجي قد ازداد بشكل ملموس في السنوات الماضية، فهذا هو المؤشر الوحيد الذي نملكه” ويختم بل بأن البحث بالرغم من التفنن في توفير المقاييس الرياضية والاحصائية المختلفة والاستعانة بالانظمة المفصلة التي استحدثها امثال سولوف ولنز، لم ينتج بعد معادلة مقنعة لقياس الانتاجية كعامل اقتصادي مميز ولم ينجح في تقديم قياس علمي واف. صحيح “كما نعرفه الان ان التكنولوجيا والانتاجية يشكلان مؤثرا فارقا في الحياة الاقتصادية الى حد لم يتصوره ابدا الاقتصاديون الكلاسيكيون” لكن المشكلة باقية، يضيف بل، لأن “الجواب السهل يخفي سؤالا اكثر تعقيدا: ماهو التغيير التكنولوجي الحاسم؟”.
“فالجواب السهل” الذي يشمل قياسا ملموسا لدرجة الانتاجية، ليس كافيا لرفع الستار عن المعادلة الاجتماعية الاوسع التي تفسر النمو الاقتصادي القائم على التقدم العلمي، وهذا ما يشكل السر الدفين والمعضلة غير المحلولة في علم الاقتصاد منذ ادم سميث وحتى امارتيا سين.
وفي نهاية المطاف قد يكون ضروريا الاعتراف بأن الاختراع العلمي عصي على التبوء اصلا والتسليم بأن العصا السحرية القادرة على توفير المعادلة الوافية بين العلم والاقتصاد ستبقى من باب الاسئلة التي لايمكن الاجابة عنها.
وفي سياق البحث عن دور العلم في الاقتصاد، من المفيد الرجوع الى مقطع يبدو غامضا لاول وهلة للكاتب المغمور الذي ذكرناه انفا: “فبالنسبة للمجتمع (الاقتصاد) عموما، ان القيمة الاقتصادية محصورة بنوعية عمل في المجتمع تكون كفيلة بزيادة الامكانية النسبية للكثافة السكانية- potential relative population density عبر التقدم التكنولوجي. وبعبارة اخرى، فأن القيمة الاقتصادية الصحيحة هي التي تنتج بقياس للازوال في العملية الاقتصادية” the negentropy of the economic process.
وغريب هذه الجملة يتضح معناه في العبارات التي تلي هذا المقطع، ومؤداها “ان القيمة الاقتصادية والعمل، في تحديدنا هذا، لهما المعنى ذاته”، كما في العبارات التي تسبق المقطع لتحديد معنى “القيمة الفعلية concrete value”: “ان المعادلة الرياضية التي اخترناها تظهر ان المجتمع (الاقتصاد) يسير الى الزوال entropic، (اي يخسر طاقته وثروته) الا اذا حصل تقدم تكنولوجي يزيد من الامكانية النسبية للكثافة السكانية”، يعني قدرة الناس الحالية والمستقبلية على مزيد من الانتاج بنوعية احسن وبجهد وعمل اقل.
ما هي “المعادلة الرياضية الصحيحة” لتقييم ما اذا كان الاقتصاد صائرا الى زوال entropic او الى لا زوال negentropic، بحيث يكون الانسان معدا لانتاجية افضل، وهي ذاتها ما يشير اليها الكاتب بعبارة “الامكانية النسبية للكثافة السكانية؟” الجواب من السؤال يأتي في شكل معادلة s/c+v. وفي المعادلة تمثل s الطاقة الحرة التي ينتجها الاقتصاد (فيما القيمة المضمرة s هي الانتاج عموما) وc مجموع الرساميل المستهلكة في الانتاج الاقتصادي، وv قيمة العمل المحتاج لانتاج s، كما ان s تشكل ايضا جزء الانتاج العام الذي يعكس التقدم النوعي في اقتصاد معين. وبهذا تمثل s/c+v معادلة اقتصاد ينمو بصورة سليمة اي بدفع مستمر من التقدم العلمي.
وفي تطبيقات وطنية في الدولة تحسب s على اساس الانتاج الزائد الذي يوفره نمو الاقتصاد فيها ناقص الاستهلاك والمصروف العام، فتصبح s/c+v هي المعادلة الكفيلة بتقييم فعالية عنصر العمل في الاقتصاد v. اما قيمة c فهي خارجة اصلا عن التقييم النوعي (اذ لا تقدم نوعي في رأس المال) تاركة لs على اساس نمو عنصر vفيها، ان تعبر عن الانتاجية المرتبطة بالتأثير العلمي للقوة العمالية، يعني “الطاقة الحرة التي ينتجها المجتمع” ويمكن للمعادلة هذه ان تطبق في بلد معين، او في قطاعات محددة من الاقتصاد في شعبة خاصة منه او حتى في معمل ما ، كما انها وافية اذا ما اتسعت لتضم حسابات اقليمية او عالمية. فأذا امكن تحديد نسبة s/c+v رياضيا، يقترح الكاتب تطويرها على اساس الاعمال الرياضية للعالمين الالمانيين الشهيرين، جورج كانتور cantor وبرنارد ريمان Riemann مما يجعل النظرية اكثر الماما بصورة الاقتصاد والمجتمع في تطورهما في الاتجاه العلمي المطلوب.
هل ان هذه المعادلة التي ترتكز في بعض مقدماتها على اعمال ريكاردو ricardo وماركس مقنعة بالقدر الذي يوحي به ربطها بنبوغ علم الرياضة في زمن كانتور وريمان؟ لا يبدو الجواب بالايجاب مقنعا الى الان لا لسبب سوى استحالة احتساب الاكتشاف العلمي رياضيا وربطه بالارقام فكيف بتقييمه في الحقل التطبيقي؟ وكيف يمكن احتساب تأثير اكتشاف الكهرباء او الهاتف او المايكروشيب microchip في معادلة حسابية مهما بلغت تعقيدا؟
هذا كله يجعل الجواب اوالوافي عصيا على افاق النظريات الاقتصادية والاجتماعية وتبقى المعادلة العلمية التي تقيم العنصر التكنولوجي العلمي من داخل النمو الاقتصادي هيولية، في حين تبدو المناداة الملازمة للنظرية بخطط عملاقة وتوظيفات حكومية في التربية والبحوث والمشاريع الطموحة من نوع العمل على ايصال الانسان الى المريخ، او النظام المضاد للصواريخ العابرة للقارات او العمل لأزالة الاوبئة العالمية جميع هذه الاقتراحات المرتكزة على نظرة “لازوالية” العالم negentropy تبدو مبالغة في منحاها العلمي الاقتصادي. يبقى ان بعض هذه الافكار مفيد ومفيد جدا، كما سنقدم على تفصيله لاحقا، اذا شاءت الحكومة الامريكية ان تبحث عن افاق اقتصادية واجتماعية جديدة ترتبط بشكل وثيق بالتقدم العلمي.
لكن المشكلة تزداد تعقيد متى اختلط مفهوم التقدم العلمي بمسألة استدراك فاذا كانت الدولة متناقصه هيه نقطه التقاء بين اليسار واليمين في نهاية القرن العشرين فان توظيفات الكبيرة المبينة على احدث اكتشافات العلمية في المشاريع العملاقة تصدم مباشره بضرورة التقليل من حجم الدولة وقد يبدو تحصيل حاصل ان الدولة ليست مقدمه على الزوال في المستقبل القريب ،لكن العقيدة المشتركة بما كان يمين او يسار تتجه بوضوح الى التقليص الدور الحكومي في الحياة اليومية مما يجعل مبدأ استدراك وحتميه التغير التكنلوجي قطبين متضاربين في النظريات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة.
فاذا كان كل منهما بالغ التعقيد متى حاولنا قياس او تقييمه بدقه على حده فان المجتمع المفهوم يزيد الصعوبة التعقيدية حكومة اقل اي استدراك مبادرة اكبر اي دعم حكومي كبير مثل هذه الشعارات تنتهي بسهوله الى الرتابة والفراغ لكن مبدا استدراك بشكل عام اي تدل الدولة بأدنى حد ممكن بالاقتصاد ومفهوم الإنتاجية التكنلوجية اي مشاريع علمية واسعة توحي بها الدولة او تقودها كلا المفهومين يستقران كالقطبين الاساسيين في مؤشرات القرن الحادي والعشرين الاقتصادي مهما كان التناقض بينهما عميقا واذا نجح علم الاقتصاد الجديد في نصبهما هدف لمرحله ما بعد المحاسبة الوطنية اجتماعهما نفسه يطرح اسئلة صعبة بقدر ما هيه ضرورية .
وبالمقابل المؤشرات الاقتصادية التقليدية يقف البحث عند معايير جديده فهل لمبدأ الاستدراك ان ينال تحديدا قانونيا بالاقتصادية وافيا لغرضه وما شكل التفاعل بين مبدأ الاستدراك والتحفظ الحكومي ومبدأ اكتشاف العلمي على توسيع النطاق وهل تنجح معادله .
او اي معادلة رياضية تحاول تفسير الانتاجية الاقتصادية في تخطي هامشيتهما ومضمورها وتوفير المؤشرات المماثلة لمؤشر الانتاج القومي في الاقتصاد الراهن وهل ان الميزانية الزمنية للإنسان والقيم الحضارية ممكنه من دون ان تغرق في حسابات رتيبة او تدخلات متطفلة في حياة الانسان وكم هي مهمة مجموعات الإمكانية وهل تنجح الدولة التوظيف الاجتماعي في تنقية مفاهيمها وتفعيلها جميع هذه الأسئلة تطرق مع اشراف هذا القرن باب الامل في فهم الاقتصاد والسيطرة عليه داخل اميركا خارجها مما سنتطرق على بعض تطبيقاته .