أزمة اليهود الأميركيين – زدنت 17 آيار 2002

خرجت منذ بضع اسابيع مسيرة صاخبة مناصرة لإسرائيل، في الوقت الذي كان يجري فيه حصار جنين. كان كل الخطباء من الشخصيات العامة البارزة، اعضاء في مجلس الشيوخ، وقادة المنظمات اليهودية، ومشاهير وغيرهم، الذين أبدوا التضامن الثابت مع كل ما كانت تفعله اسرائيل.
مثلت الادارة بولفويتز، الشخصية الثانية في وزارة الدفاع، من صقور اليمين المتطرف الذين تكلموا عن انهاء دول مثل العراق منذ ايلول الماضي. وعرف عنه ايضاً كمناصر عنيد لإسرائيل في خطابه كغيره من الكثيرين الذين سبقوه -مجد إسرائيل، وعبّر عن دعمه الكامل وغير المشروط لها- لكنه اشار على نحو غير متوقع وبصورة عابرة الى (معاناة الفلسطينيين). أطلقت بوجهه بسبب تلك العبارة صيحات الازدراء العالية والطويلة، لذلك لم يقدر ان يواصل خطابه وترك المنصة بنوع من المهانة.
مغزى هذا الحادث ان دعم اليهود الاميركيين لإسرائيل اليوم، لا يتحمل أي وجود فعلي للشعب الفلسطيني، الا في سياق الارهاب والعنف والشر والتعصب، اضافة الى هذا فهم يرفضون سماع أي شيء عن وجود طرف اخر، سوى رأي الإسرائيليين المتعصبين المعادين للعرب، الذين هم طبعًا على خط الصراع الامامي في فلسطين.
لنحكم بالمظاهرة المضادة للحرب المكونة من 60,000 شخص في تل ابيب والعدد المتزايد من العسكريين الاحتياط، الذين يرفضون الخدمة العسكرية في الاراضي المحتلة، والاحتجاج القوي للمثقفين والجماعات، وبعض استطلاعات الرأي التي تظهر ان الغالبية من الاسرائيليين يرغبون في الانسحاب مقابل السلام مع الفلسطينيين، هناك حراك سياسي بين اليهود الاسرائيليين في الاقل عكس ما هو الحال في الولايات المتحدة.
كتبت منذ اسبوعين المجلة الاسبوعية، نيويورك التي يبلغ توزيعها المليون نسخة، ملفا بعنوان (ازمة يهود اميركا)، كان الموضوع (في نيويورك كما في اسرائيل هي قضية البقاء).
لا اريد ان الخص النقاط الاساسية في هذا الادعاء الغريب الا لأقول انه اضفى على صورة مسحة الالم (ما هو اثمن شيء في حياتك ،دولة اسرائيل)، حسب احد ابرز ما اقتبس عنه النيويوركيين في المجلة، يجعلك تعتقد ان وجود هذه الاقلية الاغنى والاقوى في الولايات المتحدة كان مهددًا.
واقتبس عن شخص ذهب بعيدًا ليوحي بأن اليهود الاميركيين على حافة الهولوكوست الثانية. بالتأكيد، كما قالت احدى المقالات، اغلب اليهود الاميركيين يؤيدون ما تفعله اسرائيل في الضفة الغربية بحماسة، قال احد اليهود الاميركيين، للمثال، بأن ابنه الان في الجيش الاسرائيلي وانه (مسلح وخطير وقتل عدد كثير من الفلسطينيين بقد ما استطاع)
يلعب اثم الثراء في اميركا دورًا في هذا النوع من التفكير الواهم، لكن اكثره نتيجة العزلة الذاتية غير الاعتيادية والفنتازيا والاسطورة، التي تأتي من التعليم ومن نوع فريد من القومية الطائشة.
منذ اندلاع الانتفاضة قبل سنتين تقريبا، تشن وسائل الاعلام الاميركية والمنظمات اليهودية الرئيسة، كل انواع الهجمات ضد التعليم الاسلامي في العالم العربي، وباكستان، وحتى في الولايات المتحدة، واتهمت السلطات الاسلامية اضافة للسلطة الفلسطينية (العرفاتية) بتعليم الصغار كره اميركا واسرائيل وفضائل التفجير الانتحاري، والمديح اللامحدود للجهاد. لكن ما قيل عن نتائج ما يتعلمه اليهود الاميركيون بشأن الصراع في فلسطين قليل: ان فلسطين اعطاها الرب لليهود، وهي ارض خالية، حررت من بريطانيا، وان السكان الاصليين هربوا لان قادتهم طلبوا منهم ذلك، وان الفلسطينيين لم يتواجدوا الا مؤخرا كإرهابيين، وان كل العرب معادين للسامية ويريدون ذبح اليهود.
لا مكان في هذا التعريض لحقيقة وجود الشعب الفلسطيني، ولا يوجد أي ربط ايضاً بين عداء الفلسطينيين وحقدهم على إسرائيل، وبين ما تفعله اسرائيل بالفلسطينيين منذ عام 1948. كما لو ان تاريخ كامل من الطرد وتدمير المجتمع والاعوام الخمس والثلاثين من احتلال الضفة الغربية وغزة، وعدم ذكر المجازر والقصف والتفجيرات ومصادرة الاراضي والقتل والحصار والذل، وسنوات من العقاب الجماعي، والاغتيالات المستمرة منذ عقود، ليست شيئا بما ان اسرائيل ضحية للغضب الفلسطيني والعداء وعداء السامية غير المبرر.
لم يخطر ببال اغلب الاميركيين الداعمين لإسرائيل ان يروا اسرائيل الصانع الفعلي لأفعال محددة باسم الشعب اليهودي والدولة اليهودية، وان يربطوا بالنتيجة تلك الاعمال بمشاعر الفلسطينيين بالغضب والانتقام.
المشكلة في الصميم، هي ان الفلسطينيين ككائنات بشرية غير موجودين، اقصد ككائنات بشرية لها تاريخ وتقاليد ومجتمع والام وطموحات مثل كل الشعوب الاخرى.
ولهذا فان موقف كل اليهود الاميركيين المؤيدين لإسرائيل شيء يستحق البحث. انه يعود الى الادراك بوجود شعب أصلي في فلسطين-كل قادة الصهاينة يعرفون ذلك وتحدثوا عنه-لكن الحقيقة التي تعوق الاستعمار لا يعترف بها ابدا. ولهذا، الممارسة الصهيونية الجماعية هي انكار الحقيقة وبالأخص في الولايات المتحدة، حيث الحقائق ليست متوفرة كثيراً لتقديم ادلة فعلية، يتم ترويج حقيقة مضادة زائفة بالكذب.
منذ عصور واطفال المدارس يلقنون بانه لم يكن هناك فلسطينيين حين وصل الصهاينة الأوائل، ولذلك هؤلاء الناس المتنوعون الذين يرمون الحجارة ويقاتلون الاحتلال مجرد مجموعة من الارهابيين الذين يستحقون القتل. باختصار لا يستحق الفلسطينيون شيئاً كخبر، او حقيقة جمعية، لذلك يجب ان يتحولوا ويتلاشوا في صور سلبية اساساً. هذا بالتأكيد كله نتيجة تعليم مشوه تم تلقينه لملايين الصغار، الذي كبروا من دون أي إدراك اطلاقاً بان الشعب الفلسطيني قد تم تجريده من الانسانية تماماً لخدمة غاية سياسية-ايديولوجية، المحافظة على الدعم الكبير لإسرائيل.
ما هو مدهش، ان فكرة التعايش بين الشعوب لا تلعب أي دور في هذا التشويه. في الوقت الذي يريد اليهود الاميركيين فيه ان يعترف بهم كيهود واميركيين في اميركا يرفضون الموافقة على وضع شرعي مماثل كعرب وفلسطينيين، لشعب اخر تقمعه وتضهده اسرائيل منذ البداية.
لو عاش امرؤ في الولايات المتحدة لسنوات، سيدرك عمق المشكلة التي تتجاوز السياسة الاعتيادية. لقد انتج القمع الفكري للفلسطينيين الذي حدث بسبب التعليم الصهيوني، شعورا مشوها للحقيقة بنحو خطير غير قابل للانعكاس، ويرى بأن كل ما تفعله اسرائيل تفعله كضحية: بناء على المقالات المتنوعة التي ذكرتها انفا. اليهود الاميركيون في ازمة، بالتعدي يشعرون بالشيء نفسه، الذي يشعره غالبية الجناح اليميني لليهود الإسرائيليين، انهم في خطر وبقاءهم على المحك. هذا ليس له علاقة بالحقيقة بنحو واضح، بل بنوع من الحالة الهستيرية التي تتجاهل التاريخ والوقائع بنرجسية غير عاقلة. تلاه دفاع عما قاله ولفويتز في خطابه لم يشر فيه الى الفلسطينيين الذين لمح اليهم ولفوينز، ودافع عن سياسة الرئيس بوش في الشرق الاوسط.
فاقم هذا التجريد من الانسانية بهذا المقياس الكبير وأصبح اسوأ، مجبر على قول هذا التفجيرات الانتحارية التي شوهت وحطت من قدر النضال الفلسطيني.
لقد اكدت كل حركات التحرر بأن نضالها من اجل الحياة وليس الموت. لماذا نكون الاستثناء؟ كلما اسرعنا في تعليم الصهاينة، وبينا ان مقاومتنا توفر التعايش والسلام، كلما قل احتمال قدرتهم على قتلنا مهما ارادوا ذلك، ولن يشيروا الينا سوى كإرهابيين. انا لا اقول ان شارون ونتنياهو يمكن تغييرهما. انا اقول هناك جمهور فلسطيني، اضافة الى الجمهور الاسرائيلي والأميركي، يحتاج لأن يذكروا بأن الحل ليس باستراتيجية وتكتيك قوة الاسلحة والدبابات والقنابل البشرية والبلدوزرات، التي لا تخلق سوى المزيد من الوهم والتشويه في كلا الجانبين.
عن كتاب «خيانة المثقفين» لإدوارد سعيد

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة