أمي

اعتدت الانهزام أمام كل شيء من شأنه أن يوقظ ألذكريات ويقلب جمرات الألم المخبأة في بعض أجزائها المكنونة، صغائر الأمور وكبائرها التي تسحقني.
عجزت عن محو أو تناسي أهون وابسط الذكريات، الخوف من مواجهتها كان الدافع الأكبر للهرب منها، إليها، لم يسعفني الاختباء وراء ستار الحاضر والتعامل معها على أنها ماضٍ لايعود.
تأخذني الحياة ومشاغلها وترميني من أقصاها إلى أقصاها، واتوقع أن (لا عودة للذكريات القريبة أو البعيدة) وفي لحظة أجد نفسي متوجهة إليها، أطلب منها استعادة ضحكة أو كلمة أو إحساسا بالنجاح أو الفشل افتقدته، واكتشف أنني أضعف من أن أ ملي عليها أراداتي
فلا استجابة منها هي التي تقودني ولست من يقودها.
ليس للذكريات وطن ثابت أو أرض صلبة، تتنقل بنا دونما استئذان، تحتألنا شئنا أم أبينا، موازية لمجرى الدم واستنشاق الهواء ونظرات العيون التي تختبئ خلفها أرواح منهكة من مطاردة أشباح الذاكرة لها، أحياناً تلعب دور الذكرى البريئة التي هربنا منها خوفاً من أنفسنا، وأحياناً أخرى تلعب دور الذكرى الشريرة التي تلبست بنا بمحض إرادتنا، فلا سبيل للرحيل سوى إليها لمواجهتها والوقوف على أعتابها والمطالبة باستعادتها حتى نكمل الجزء المفقود من حكايتنا ونجمع ما تبعثر من أحداثها على مر السنين بقصد أو من دون قصد، فالكلمات لم تعد تقترن بالماضي ولا بالحاضر، تشبثت بتلك الذاكرة كالطفل عندما يعانق أمه قبل النوم يرجوها عدم الرحيل لينتهي الأمر به وحيداً في فراشه.
الذكريات والكلمات والأنفاس صدى لعمر قد يمضي من دون الولوج في تفاصيلها أو الإحساس بوجودها، أو قد تكون ملح هذا العمر الذي خاض غمارها وعشق السفر فيها، مشكلة الذاكرة أنها قد تخون صاحبها وتخذله في بعض الأحيان، وترحل عنه من دون سابق إنذار، فيصبح بين ليلة وضحاها إنساناً خالي الذاكرة بلا ماضٍ وحاضر ومستقبل، لا مكان في جسده لاستيعاب محصول يومه من الفرح والألم، ليكون مخلوقاً أشبه بنصف إنسان هجره نصفه الآخر ليعيش بلا مرح الطفولة وتمرد المراهقة ونزوات الشباب، وبلا حبيبة تطل من شباك الذاكرة بين آونة وأخرى، أو أم تأخذه بين أحضان عينيها وتمسح دموع الطفولة والصبا وغبار السنين عن كتفي وليدها، أو طريق سار على جوانبه مع رفقة أو صحبة، أو لحظة وداع لأخ أو أب، أو الام .
زينب الحسني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة