قالت: الطبقة الوسطى في مصر انتهازية استعلمت الثورة لمصلحتها
حاورهاـ أريان فاريبورز:
بكلمات حادة تهاجم الكاتبة المصرية الجريئة ونصيرة المرأة نوال السعداوي «نفاق النظام السياسي» في بلادها وتفضيله نساء عهد مبارك وإقصاءه نساء المجتمع المدني، وتتهم طبقة النخبة المصرية بـ «انتهاز الثورة». وترى أن سبب بؤس جميع حكومات ما بعد ثورة «25 يناير» (بما فيها الحكومة المنتمي إليها السيسي) هو تجنبها التواصل مع الثوار المقتنعين بأهدافهم. هنا حوار معها بشأن التحديات التي تواجه المرأة بعد ثورات الربيع العربي.
* هل تعدّين نفسك في الدرجة الأولى كاتبةً أم مناضلةً سياسية في سبيل حقوق النساء؟
– أنا لا أحب كلمة السياسة. أنا أكره السياسة! إنها لعبة قذرة. أرى نفسي كاتبةً إبداعية، لأنني أؤلف روايات ومسرحيات وأكتب قصصاً خيالية وواقعية.
*بدأت حياتك المهنية بوصفك كاتبة في أواخر الستينيات. العلامة الفارقة في أعمالك الإبداعية الأدبية والعلمية حتى الآن شكّلتها كتب لك مثل: «المرأة والجنس» أو «الوجه الخفي لحواء». كيف تفسرين نجاحك المستمر حتى اليوم – ليس فقط في مصر بل وفي جميع أنحاء العالم أيضاً؟
– أنت تسألني: لماذا تلقى مؤلفات الكاتب الموهوب رواجاً؟ والجواب هو: لأنها أعمال أدبية جيدة! لأنها إبداعية وعلمية وفريدة وأصيلة. لأنها شيء نابع من القلب والعقل على السواء – شيء صادر عن خبرة ومعرفة، وليس مستمداً من محتوى كتابيّ معرفي صرف. أعمالي الخيالية ودراساتي العلمية هي عن الحياة – إنها أصلية وإبداعية وصادقة، وهذا يعجب الناس.
من خصائص أعمالي الأدبية أنني لا أفصل الأدب الروائي عن الأدب الواقعي ولا أفصل الطب عن الفنون. فهي جميعاً وحدة واحدة! أنا غير مقتنعة بتقسيم الشخصيات إلى خيالية وحقيقية؛ لأن كل قصة خيالية هي في نهاية المطاف قائمة على أساس حقيقي – وإلّا لما كان من الممكن العثور على موضع اتصال مع النص..
لقد نشرتُ نحو 24 كتاباً، أكثرها لدى دار النشر زد بوكس في لندن. بعضها كتب غير خيالية ما زالت تلقى رواجاً حتى يومنا هذا. أحد هذه الكتب، على سبيل المثال، رواية «امرأة عند نقطة الصفر» – وهذا الكتاب مترجَم إلى اللغة الألمانية أيضاً. وقد تُرجِم في جمهورية ألمانيا الديمقراطية (ألمانيا الشرقية) قبل وقت طويل من سقوط جدار برلين. لكن الرواية باللغة الألمانية تحمل عنواناً تم اختياره اختياراً تعيساً للغاية، وهو: «أنا أبصُق عليكم!». لقد تعجبت كثيراً وتساءلتُ: كيف بإمكان المحرر نشر شيء كهذا!. ثم هاجمني الأصوليون في مصر وسألوني: على مَن تبصقين يا نوال السعداوي؟ يبدو أن ثمة ميولاً في اللغة الألمانية للعناوين الصادمة …
*لقد تمّ اتهامك بأنك أجيرة وأداة من أدوات المصالِح الغربية …
– نعم، لقد زعموا بأن هدفي من مؤلفاتي الأدبية هو خدمة المصالح الغربية، وهذا مُجانِب تماماً للصواب. الجماعات الأصولية هي التي بدأت بتشويه صورة الكاتب الإبداعية والتشهير به علناً. فعلوا ذلك بي، وليس بي فقط بل وبجميع الكُتّاب المستقلين الذين لم يكونوا خُدّاماً مطيعين للسادات أو مبارك أو مرسي. ومن أجل أن أكون مستقلة حقاً فقد اضطررت إلى دفع ثمن باهظ في حياتي، وهو: وظيفتي المهنية ودخلي المالي وسمعتي.
*لقد تعرضتِ في الماضي إلى العديد من الملاحقات: ففي عهد الرئيس أنور السادات تم اعتقالك عام 1981، وفي التسعينيات تم توزيع اسمك على قوائم الموت التابعة للمتطرفين الإسلامويين، وفي عام 2002 تم اتهامك بالردة. كيف تمكنتِ، برغم جميع المصاعب السياسية، من التمسك بعملك بإصرار؟
– وفي عهد جمال عبد الناصر كانوا على وشك اعتقالي أيضاً- لقد تم ذلك تحت ظل جميع الرؤساء والحكومات. كما أني عايشت الرقابة في الغرب أيضاً. والسبب يكمن في النظام الرأسمالي والديني والوصائي، سواء أكانت ملامحه إسلامية أو مسيحية أو يهودية أو بوذية. أنا ضد هذا النظام على المستوى المحلي والعالمي. وهذا هو الشيء الذي تتم مهاجمتي بسببه – في مصر وكذلك في الدول الأوروبية. ليس من المرحَّب بي في الغرب.
إن الذين يرحبون بي هم قلة من الناس من ذوي التفكير التقدمي وأيضاً المناهضين للنظام الوصائي والرأسمالية والليبرالية الجديدة والنزعة العسكرية. وهؤلاء الناس هم بالضبط الذين يقدّرون أعمالي الأدبية أيضاً. لكن الغالبية العظمى من الناس تقف إلى جانب النظام الرأسمالي.
*لم يتم اتخاذ إجراءات قضائية ضدك وحدك بتهمة الردة بل شملت مثل هذه الإجراءات ابنتك أيضاً. كيف حدث ذلك؟
– أعتقد أنه كان هنالك ما مجموعه خمس دعاوى قضائية ضدي. وبسبب مسرحيتي «الإله يقدم استقالته في اجتماع القمة» أرادوا سحب الجنسية مني في التسعينيات. ثم اضطررت لمغادرة مصر والعيش لمدة ثلاث سنوات في المنفى في أتلانتا (في الولايات المتحدة الأميركية).
وفي العام 2002 تم اتهامي بالردة وكان من المقرر أن يتم تطليقي قسرياً من زوجي. وبعد بضع سنوات تم اتهام ابنتي منى حلمي بالردة أيضاً، وهي كذلك من أنصار المرأة وكاتبة موهوبة جداً، وكانت تكتب للمجلة الأسبوعية المصرية «روز اليوسف». وكانت قد تجرأت على استعمال اسم والدتها ووالدها في نهاية مقال كتبته في هذه المجلة. في حين ليس من المسموح للبنات والأبناء إلا بحمل اسم الأب وليس اسم الأم. وبررت ذلك بأن من حقها ومن حق أمها استعمال اسم الأم. وبعد ذلك بدأ إجراء قضائي ضدها.
ولكن ابنتي أثارت موجة من التضامن في مصر، عبر مبادرتها باحترام اسم الأم. لقد تمكنت من إنشاء حركة كانت ضرورية؛ لأن حقوق الأمهات قليلة في مصر: فالزوج قد يعيش مع زوجته 30 أو 40 عاماً وقد يكون لديهما أطفال ثم يرسل لها ورقة الطلاق بالبريد، بل إنه قد يطلقها من دون أن تعرف بذلك، لأن القانون يسمح بهذا.
ولأنني طبيبة نفسية، تأتي إليّ أحياناً أمهات في سن بين الـ 60 والــ 70 عاماً، وقد ضحين بحياتهن كاملة لعائلاتهن «المقدسة» ولأزواجهن. ولكنهن مضطرات في النهاية إلى إدراك أنهن مطلقات من دون علمهن، وأن أزواجهن متزوجون من نساء أصغر سناً في عمر بين الــ 40 و الــ 50 عاماً. وأبناؤهن متزوجون ولا يقومون بزيارتهن. هؤلاء النساء يجئن إليَّ وهن مصابات باكتئاب شديد وبكثير من الأمراض النفسية الأخرى.
*هل حالف النجاح في نهاية المطاف حملة حركة حقوق المرأة، التي قادتها ابنتك على الرغم من الإجراءات المتخذة ضدها؟
– نعم، فبفضل الضغط الصادر عن حملتها رأت الحكومة أنها مضطرة في العام 2008 لتغيير قانون حماية الطفل. ونظراً لوجود ثلاثة ملايين طفل من الأطفال المولودين خارج إطار الزواج فقد كانت هنالك حاجة ملحة لذلك أيضاً؛ لأن الكثيرات من أمهات هؤلاء الأطفال كُنّ ضحايا للاغتصاب. تخيّلْ: لم يكن مسموحاً لهؤلاء الأطفال باتخاذ اسم الأم، وكان الأب مجهولاً.
وبالتالي لم يكن بإمكان هؤلاء الأطفال لا الحصول على شهادات الميلاد ولا الذهاب إلى المدرسة. أما اليوم فمسموح لهم بهذا، لقد كان ذلك انتصاراً كبيراً لنا. واحتفلنا في العام نفسه بنجاح كبير آخر وهو حظر ختان الإناث وتشويه أعضائهنّ التناسلية. لذلك ثمة دائماً تطورات إيجابية تمنحني الكثير من القوة.
*هل يعود اضطهاد المرأة في مصر في المقام الأول إلى تقاليد النظام الوصائي أم يعود بالأحرى إلى عوامل دينية؟
– لا، إنها العبودية! اضطهاد المرأة في مصر لا يعود إلى التقاليد والإسلام والأصولية، ولكنه يعود إلى نظام الرق – نظام مجتمع طبقي وصائيّ، تدعمه الديانات. لقد درستُ تاريخ عصر العبودية. في مصر القديمة قبل 7000 سنة، كانت لدينا آلهة: «إيزيس» كانت إلهة الحكمة، وليست إلهة التكاثر أو التوالد! و»ماعت» كانت إلهة العدالة. ما حدث تاريخياً في ذلك الحين هو سَلْب المرأة من موقعها السابق، واستبداله في المسيحية واليهودية بحواء، التي مثّلت الخطيئة، ثم ورث الإسلام ذلك في وقت لاحق. في الواقع، هنالك أناس كثيرون يقولون إن الدين الإسلامي هو الذي يضطهد المرأة، وأنا أقف ضدهم هنا وأقول: كلاّ، فقد كان ذلك أصلاً في المسيحية واليهودية. أما الإسلام فقد تولى هذه الممارسة عنهما.
لقد قضيت عشر سنوات في مقارنة العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل) مع القرآن – إنها كتب متشابهة داً، والفوارق بينها ضئيلة للغاية. لذلك يمكنك القول إن اضطهاد المرأة نشأ في حقبة الرأسمالية العالمية بعد الحداثية، التي حظيت بدعم الأصولية الدينية. وسبب ذلك أن دُعاة مثل هذا النظام والمدافعين عنه في حاجة إلى إله لتبرير القمع ونفاقهم السياسي والاستعمار وقتل الناس. وإلاّ فكيف يمكن تبرير غزو فلسطين أو العراق؟ وكيف يمكن تبرير عيش 50 في المئة من الناس في مصر تحت خط الفقر حالياً، في حين أن اثنين في المئة من السكان يمتلكون المليارات من الدولارات؟ ما هي الطريقة التي يمكن بها تبرير مثل ذلك؟ لهذا الغرض يتم الاحتياج إلى إله!
*ما هو تقييمك للدستور المصري الجديد فيما يتعلق بمساواة المرأة قانونياً مع الرجل وحقوق الأقليات الدينية؟
– هذا كله نفاق سياسي! فالـ 50 شخصاً الأعضاء في لجنة صياغة الدستور كانوا جميعاً من المسؤولين الحكوميين – أي من السياسيين الذين دفعت لهم الحكومة أموالاً. وكان من بينهم أعضاء من جماعة السلفيين، التي تعدّ إحدى أكثر الجماعات الإسلامية تخلفاً على الإطلاق، بل إنها حتى أكثر رجعيةً من جماعة الإخوان المسلمين. المادة رقم 2 من الدستور، على سبيل المثال، تنصّ على أن الإسلام هو دين مصر. ولكن ماذا يعني ذلك بالضبط؟ هل مصر دولة دينية؟ إنهم ينفون ذلك ويقولون إن مصر دولة علمانية. هذا الدستور مليء بالتناقضات. وحتى الجوانب الإيجابية القليلة فيه هي مجرد حبر على ورق.
وأحد أمثلة ذلك هو أن الدستور في إحدى موادّه يكفل حرية الاعتقاد، وينص على أن الدولة يجب ألا تتدخل في المسائل الدينية. في حين قام الأزهر مؤخراً بحظر فيلم «نوح»، وهو ملحمة هوليوودية حول الكتاب المقدس، وذلك نظراً لأنه يتم في الفيلم عرض بعض رُسُل الله. ماذا تبقى في ذلك من الحرية الدينية؟ وكل يوم بإمكاننا ملاحظة انتهاك الحرية الدينية.
سألني الكثيرون عن سبب عدم انضمامي إلى لجنة صياغة الدستور هذه. وفي الواقع: كيف يمكن للحكومة بعد الثورة تشكيل لجنة من دون أن تدعونا نحن النساء ونحن الأشخاص المنتمين إلى المجتمع المدني للانضمام إليها؟ إلقاء نظرة سريعة على النساء في الهيئة العليا يكفي لمعرفة أنهن كن يعملن سابقاً لصالح مبارك. إنهم لا يريدوننا! إنهم لا يريدون أناساً شجعاناً بحق يقفون فعلياً إلى جانب قناعاتهم الذاتية. إنهم يعرفون أن بإمكاني الكتابة والذهاب إلى السجن في سبيل ذلك أيضاً. ولذلك فهم يقولون: حسناً، من الأفضل تركها وحدها!
*هل شكّلت «ثورة يناير» في مصر فشلاً ذريعاً حين ننظر إلى النكسات الكثيرة التي مُنِيَت بها حركة حقوق المرأة منذ استلام الحكومة الانتقالية للسلطة؟
– محمد حسين طنطاوي كان آنذاك على رأس الجيش. وتحت قيادته ألقى الجيش القبض على المتظاهرات وأرغمهن على الخضوع لفحوصات العذرية. جميع الحكومات التي تولت السلطة بعد ثورة 25» يناير» 2011 عملت على إنهاء الثورة قبل أوانها. ولكن ما الذي كان حدث قبل ذلك؟ حين كنا نحتج في ميدان التحرير كان الانتهازيون يتفاوضون بالفعل من وراء الكواليس مع أركان نظام مبارك.
وحين استمرت الثورة برغم ذلك وفشلوا بمخططهم جاءت في البداية أول حكومة برئاسة عصام شرف وأرادت إنهاء الثورة أيضاً، ثم جاءت حكومات أخرى إلى السلطة وأرادت الإعداد لإنهاء الثورة إنهاءً سريعاً كذلك: كل من هذه الحكومات تعاونت مع الإخوان المسلمين حتى وصل هؤلاء إلى السلطة، وأعلنوا بدورهم انتهاء الثورة.
بِتنا اليوم نتعامل في مصر مع طبقة من النخبة، الطبقة الوسطى والطبقة المتوسطة العليا، وهي طبقة لم يَعُد لديها أية مبادئ إطلاقاً، ناهيك عن الضمير. إنهم انتهازيون استعملوا الثورة لمصلحتهم الخاصة فقط. وهذا هو أيضاً السبب في بؤس جميع هذه الحكومات حتى اليوم – فهي تتجنب التواصل مع الناس الثوار المقتنعين بالنضال من أجل أهدافهم.
* عن موقع «قنطرة»