العلاقات الاقتصادية الاستراتيجية للعراق مع اليابان

2 – 4
لقمان عبد الرحيم الفيلي

ثالثاً: المنافع التي يمكن أن تتحقق للعراق من خلال الشراكة الاستراتيجية مع اليابان:
كما أشرنا آنفا إلى أن اليابان تمتلك إمكانات مالية وبشرية متعلمة وتقنية متقدمة واسعة تجعلها في مقدمة الدول التي من الممكن للعراق أن يقيم معها شراكات استراتيجية طويلة الأمد، في إطار عملية إعادة الإعمار وما بعدها، وتوطيد الاستقرار فيه، ومن خلال استمرار التواصل مع الأطراف اليابانية المختلفة لمست وجود فرص كبيرة يمكن توفيرها لبلادنا من خلال اعتماد سياسة مدروسة وبعيدة المدى تجاه اليابان، فمن خلال التبصر بالمحيط الإقليمي لليابان نرى أن لها دوراً رئيساً في حالة التطور التي تشهدها الاقتصادات الآسيوية، كالصين وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، وماليزيا، وإندونيسيا، والفلبين، فقد ساهمت المساعدات المالية والتقنية التي قدمتها اليابان لتلك الدول، فضلاً عن الأموال التي استثمرها القطاع الخاص الياباني، في انطلاق ثورة صناعية وعمرانية في دول جنوب شرق آسيا، بنسب تختلف من دولة إلى دولة أخرى، إذ استثمرت اليابان الكلفة الواطئة للأيدي العاملة في تلك الدول لبناء مصانع، وأنظمة خدمية ومشاريع إنتاجية حققت عائدات مالية ضخمة لكلا الطرفين.
لقد أردنا من خلال الأمثلة التي ذكرناها آنفاً التذكير بالمكاسب التي يمكن للعراق إن يحققها من خلال بناء استراتيجية شراكة شاملة مع اليابان، وفي أدناه أهم المكاسب المتوقعة من هذه الشراكة:
المجال السياسي: نظراً للمكانة الدولية التي تتمتع بها اليابان كونها واحدةً من أهم القوى الاقتصادية والمالية والتقنية في العالم، فبإمكان العراق الاستفادة من الدعم الياباني لقضاياه المصيرية في المحافل الدولية والإقليمية، بما يحقق له نقاط قوة إضافية تعزز من مكانته الإقليمية والدولية على وفق نظرية التوازن الحاصلة بإقامة الأحلاف والتجمعات، من خلال علاقات استراتيجية مع الدول المهمة في العالم؛ ومن المتوقع أن تنجح اليابان في الحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي، إذا ما تحقق مشروع زيادة عدد المقاعد الدائمة في هذا المجلس؛ مما يعزز من مكانة اليابان الدولية ويضاعف من مكاسب بناء علاقات استراتيجية عالية المستوى معها.

المجال المالي:
أولاً: القروض الميسرة: هناك استعداد ياباني لمنـــــــح العراق قروضاً ميسرة وبفوائد قليلة -على غرار القرض الحالي- يمكن استثمارها في تغطية تكاليف بعض مشاريع إعادة الإعمار وإمكانيـــة الحصول على حزمة ماليـــة (Financial Package) بمبالغ عالية جداً مقدمة من جهات يابانية، لتمويل مشاريع واستثمارات في العراق.
ثانياً: الفرص الاستثمارية: تمتلك المؤسسات المالية ورجال الأعمال والشركات اليابانية، أموالاً ضخمة يمكن جذبها إلى العراق إذا ما توافر المناخ الأمني والقانوني والاستثماري لدخول تلك الأموال إلى العراق.
مجال البناء: للشركات اليابانية المختصة بالبناء والإنشاءات سمعة طيبة في العراق مثل المستشفيات العامة والعمارات السكنية وبعض الوزارات العراقية كوزارة الخارجية.
المجال التقني: من المعروف أن اليابان تمتلك قدرات واسعة في إنتاج التكنولوجيا الحديثة وتسويقها في مجالات الحياة كافة؛ إذ إن الشركات اليابانية بتقنياتها العالية قادرة على تزويد العراق بتكنولوجيات حديثة تضيّق الفجوة العلمية والتقنية التي تولدت نتيجة الظروف القاسية التي مر بها العراق خلال العقود الثلاثة الماضية، مع الأخذ بالحسبان أن اليابان كان لها الدور الريادي في التقدم والبناء الذي حصل مع دول آسيوية أخرى كالصين وماليزيا والفلبين.
رابعاً: الاسباب التي تقف وراء الاهتمام الياباني بالعراق ومطالبها منه:
كما ذكرنا آنفاً، فإن اليابان تتمتع باقتصاد قوي له ثقل عالمي، يرتكز إلى قاعدتين أساسيتين هما: القاعدة الصناعية المتطورة التي تعتمد على التكنولوجيا المتقدمة ورأس المال البشري الكفوء، والقدرات المالية الضخمة. ولا يخفى أن الإنتاج الصناعي والنشاط الخدمي والعمراني في اليابان يحتاج إلى الطاقة التي يتم استيرادها من الخارج؛ بسبب انعدام الموارد الطبيعية أو ندرتها في أرخبيل الجزر اليابانية، إذ تستهلك اليابان أكثر من 4.25 مليون برميل من النفط يومياً، فضلاً عن الغاز الطبيعي، وبقية المواد الأساسية لإنتاج الطاقة. وقد وجدت اليابان نفسها في حرج شديد إبان أزمة النفط العالمية عام 1973، حينما أوقفت الدول العربية تصدير النفط الخام احتجاجاً على العدوان على دولة مصر آنذاك.
لقد تعّلم اليابانيون درساً قاسياً حينما وجدوا أن القدرات الصناعية والتقنية، ومستوى الخدمات الرفيعة التي يمتلكونها قد باتت بلا فائدة لانقطاع مصادر الطاقة؛ ومنذ ذلك الحين تولي اليابان موضوع الإمدادات النفطية أولوية قصوى؛ ونتيجة لحضور البُعد الاستراتيجي في سايكولوجية الفكر والتخطيط هنا، فإن اليابان تسعى لتأمين إمدادات نفطية مستدامة في المستقبل ولربما حتى عام 2050، لمعرفتها الجازمة بأن النفط سيبقى عصب الطاقة الرئيس في العالم، فعلى الرغم من تقدم البحوث العلمية لاستنباط بدائل جديدة لإنتاج الطاقة، إلا أنها تبقى بعيدة عن تحقيق الاكتفاء الكامل عن النفط بسبب كلفتها الباهظة مقارنةً بالنفط. لقد تضمنت استراتيجية اليابان للطاقة التي وضعتها عام 2016 توصيات بتنويع مصادر الحصول على النفط والغاز تجنباً لانقطاعها؛ بسبب الحروب والكوارث التي قد تصيب هذه المنطقة أو تلك من العالم، وتبحث عن مصادر طويلة الأمد لإمدادات الطاقة؛ ومن هنا يُفسر الاهتمام الياباني بالعراق الذي يمتلك احتياطياً نفطياً متقدماً على المستوى العالمي. ومما يعزز اهتمام اليابان بالعراق هو التحول الديمقراطي الذي أطل عليه بعد عام 2003؛ مما يجعله دولة ذات منهج مؤسسي يسهل على المستوى النظري التعامل معه، وتنطوي الحالة على أسباب أخرى منها التبادل التجاري والمنافع الاقتصادية الأخرى، وقد تمثل علاقة العراق المتميزة مع الولايات المتحدة عنصر تطمين إضافياً لليابان لبناء قاعدة عريضة من المصالح الاقتصادية مع العراق.
إن استقرار العراق بوصفه دولة محورية في الشرق الأوسط، وهي المنبع الرئيس للطاقة في العالم، يشكل رغبة ملحة لجميع الدول الصناعية، فاستقرار العراق والشرق الأوسط أمر أساس لاستقرار سوق النفط العالمية التي تمس جميع مفاصل الحياة في العالم.
أما ما تطلبه اليابان من العراق فيتلخص بضمانات بإمداد نفطي مستمر لا ينقطع بقرار سياسي، وعلى وفق الأسعار السائدة في السوق العالمية، وترغب الشركات النفطية اليابانية أن تؤدي دوراً أساساً في عمليات استخراج وتصدير النفط العراقي على وفق الشروط المناسبة لكلا الطرفين، مقابل أن تسهم تلك الشركات في النهوض بالقطاع النفطي العراقي إلى أعلى مستوى، وتشكّل المنافسة الدولية على المشاريع النفطية العراقية، ولاسيما المنافسة الصينية والكورية الجنوبية، عوامل تحفيز مهمة لليابان تجاه العراق.
ومن الفوائد التي يمكن لليابان تحقيقها من خلال علاقات استراتيجية مع العراق، هو مساعدة شركاتها من الخروج من حالات الجمود الاقتصادي المتكررة التي تواجهها اليابان منذ سنوات، فحصول تلك الشركات على مشاريع مهمة في العراق سيحقق لها مكاسب مالية مهمة، وبما يعود بالنفع على الاقتصاد الياباني.
خامساً: أسباب تأخر دخول الشركات العالمية ومنها اليابانية في الدخول إلى السوق العراقية:
هنالك العديد من العوامل التي أنتجت حالة التردد والتخوف التي تنتاب الشركات اليابانية وتعرقل دخولها إلى السوق العراقية بعضها يتعلق بالوضع العراقي الداخلي، وبعضها الآخر يتعلق بآليات عمل تلك الشركات والقواعد التي تحدد نشاطاتها، وفيما يلي نبذة عن تلك المعوقات:
العامل الأمني: لقد شكّل مقتل اثنين من الدبلوماسيين اليابانيين فـي العراق عام 2004، ومواطنين يابانيين آخرين، صدمة كبيرة للرأي العام في اليابان وعلى المستويين الحكومي والشعبي، مما جعل الشركات اليابانية تتردد في إرسال موظفيها للعمل في العراق، واستعاضت عن ذلك بشركات أو هيئات تنفيذية لمتابعة المشاريع التي شُملت بالقرض الياباني الميسّر، إلاّ في حالات محدودة تقوم اليابان فيها بإرسال موظفين رسميين -كما في وكالة اليابان للتعاون الدولي JICA، ووزارة الاقتصاد اليابانية- فطبيعة النظام السياسي السائد في اليابان يجعل الحكومة غير قادرة على مواجهة تداعيات فقدان أي مواطن ياباني أمام الرأي العام في البلاد، وهذا يبرر انسحابها المبكر من العراق عام 2006 من وجهة نظر المحللين، ومن الجدير بالذكر وجود صفات اعتقادية لدى المجتمع الياباني انعكست حتى على السلوك السياسي للحكومات اليابانية المتعاقبة التي تعدّ الإنسان الياباني كائناً مقدساً ولا يجوز تعريضه للخطر.
عدم إيضاح الرؤية حول قوانين النفط والاستثمار الأجنبي في العراق، من وجهة النظر اليابانية، وكثرة التجاذبات السياسية في المشهد العراقي، يجعل المهتمين بهذين القطاعين الحيويين يترددون في الدخول إلى السوق العراقية في الوقت الراهن ولاسيما من قبل الشركات الصناعية والمالية الكبرى التي تبحث عن أجواء مستقرة ملائمة للاستثمار.
افتقار الساحة العراقية إلى المؤسسات المالية المتخصصة التي تعدُ القاعدة الأساسية لأي استثمار أو مشروع، كالبنوك والمصارف الكبيرة وشركات التأمين وغيرها.
تأخر القطاع الخاص العراقي عن مواكبة التطورات الاقتصادية العالمية ومحدودية نشاطاته وخبراته في التعامل مع السوق العالمية، وانحسار دوره في الاقتصاد العراقي بأن يكون تابعاً للقطاع الحكومي لا غير.
تأثر الشركات العالمية بالتقارير الاقتصادية المتخصصة التي تشير إلى انتشار ظاهرة الفساد الإداري والمالي في المؤسسات العراقية ذات الصلة بالمجال الاقتصادي.
تخوف العديد من الشركات اليابانية من إحمال انتقال الأجهزة والمعدات المتطورة أو الحساسة التي تنوي بيعها إلى العراق من دون علمها، إلى دول الجوار العراقي بطرق غير مشروعة، مما يضع تلك الشركات في مواقف محرجة تسيء إلى سمعتها في الأوساط اليابانية والدولية وتعرضها إلى المساءلة القانونية.
تشكّل القيود التي تفرضها وزارة الخارجية اليابانية على سفر المواطنين اليابانيين إلى العراق حاجزاً نفسياً يحول دون توجه الشركات اليابانية إلى العراق بغية العمل فيه.
ضعف الشفافية في آليات القرار العراقي؛ وبالتالي عدم مقدرة الجانب الياباني في فهم المعطيات العراقية لقراراته.
ضعف التوقع والتنبؤ في آليات القرارات العراقية؛ وبالتالي لتفاجأ بتعليمات وزارية وإرشادات تؤثر سلباً على مشاريعهم في العراق.

*السفير العراقي السابق في الولايات المتحدة الأميركية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة