أناتول كاليتسكي
كبير الاقتصاديين والرئيس المشارك لمعهد غافيكال دراغونوميكس.
يبدو أن الانتخابات البريطانية التي دعت رئيسة الوزراء تيريزا ماي إلى عقدها في الثامن من يونيو/حزيران كفيلة بتحويل آفاق السياسة البريطانية وعلاقاتها بأوروبا، ولكن ليس بالضرورة على النحو الذي ربما تُلمِح إليه أغلبية متزايدة إلى حد كبير من حزب المحافظين بزعامة تيريزا ماي. الواقع أن العنوان الرئيسي لصحيفة دايلي ميل حول إعلان تيريزا ماي الانتخابي: «اسحقوا المخربين» جاء ليرمز بنحو دقيق إلى هزيمة الأرض المحروقة التي يتوقع المتشككون في أوروبا من المحافظين إنزالها بالقوى الدولية والتقدمية في بريطانيا. ولكن الفوز المدوي في يونيو/حزيران ربما يؤدي في نهاية المطاف إلى انقلاب أكثر إذهالا في الأحداث، مثل زحف نابليون الاستعلائي المتغطرس على موسكو بعد أن دمر جميع أشكال المعارضة في أوروبا الغربية.
فقد تتمكن القوى التقدمية المؤيدة لأوروبا من انتزاع النصر من فكي الهزيمة لثلاثة أسباب مترابطة.
أولا، من خلال تقديم موعد الانتخابات البريطانية، عملت تيريزا ماي فعليا على تمديد الموعد النهائي لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من 2019 إلى 2022. فالانتخابات المبكرة تجعل من المحتم أن تغادر بريطانيا الاتحاد الأوروبي رسميا في مارس/آذار 2019، لأن تيريزا ماي لن تواجه بعد ذلك حتى مجرد الاحتمال النظري لنشوء معارضة برلمانية. ولكنها أيضا تسمح لبريطانيا بقبول فترة انتقالية طويلة بعد الموعد النهائي للرحيل في عام 2019، حتى يتسنى للشركات والأنظمة الإدارية التكيف مع أي شروط متفق عليها بحلول ذلك التاريخ.
وكانت جماعات الضغط من رجال الأعمال البريطانيين، فضلا عن المسؤولين الحكوميين المكلفين بالتنفيذ، تمارس الضغوط لجعل هذه الفترة الانتقالية طويلة قدر الإمكان. ولكن الاتحاد الأوروبي أصر على ضرورة استمرار كل الالتزامات الحالية التي تفرضها عضوية الاتحاد الأوروبي خلال الفترة الانتقالية، بما في ذلك المساهمات في الميزانية، وحرية انتقال العمل، وفرض الأحكام القانونية المعمول بها في الاتحاد الأوروبي.
قبل الدعوة إلى الانتخابات، بدا من المستحيل تقريبا التوفيق بين احتياج عالَم المال والأعمال إلى فترة انتقالية طويلة وإصرار المحافظين المتشككين في أوروبا على الانفصال التام والفوري عن الاتحاد الأوروبي. والفوز الساحق في الانتخابات من شأنه أن يتيح لتيريزا ماي السلطة اللازمة للتفاوض على فترة انتقالية طويلة، على الرغم من اعتراضات المتطرفين المناهضين لأوروبا، وسوف يقنع هذا المزيد من المعتدلين من المتشككين في أوروبا بأن التوقيت الدقيق لالتزامات الاتحاد الأوروبي المختلفة يُصبِح أقل أهمية بعد ضمان الخروج الآن.
نتيجة لهذا، وبرغم أن بريطانيا لن تصبح عضوا في الاتحاد الأوروبي بحلول مارس/آذار 2019، فلن يتغير إلا أقل القليل في اقتصاد بريطانيا أو طريقة الحياة هناك بحلول موعد الانتخابات العامة المقبلة في عام 2022. ومن هذا المنظور، فإن القرار الذي اتخذته تيريزا ماي بالدعوة إلى انتخابات مبكرة يُعَد انتكاسة للمتطرفين من المتشككين في أوروبا، الذين ربما كانوا ليضطروها لولا ذلك إلى الانفصال التام عن أوروبا بحلول مارس 2019.
ويرتبط هذا بسبب ثان وراء احتمال تحول الانتصار الوشيك للبريطانيين المتشككين في أوروبا إلى انتصار باهظ التكلفة. وفي حين قد تؤدي الانتخابات المبكرة إلى تأخير التغيرات الاقتصادية، فإنها كفيلة بالتعجيل بالتحول في السياسة البريطانية.
كان حزب العمال المعارض الرئيسي في بريطانيا يعاني من سكرات الموت منذ عام 2015، ولكنه تمكن من البقاء على حالة الميت الحي الحالية إلى أن دعت تيريزا ماي إلى انتخابات مبكرة. ولأن الانتخابات التالية كانت منتظرة في عام 2020، فكان من المحتمل أن يحدث تطور غير متوقع في السنوات الثلاث المقبلة يسمح لحزب العمال بالعودة إلى الحياة. ومن خلال تقديم موعد الانتخابات، عجلت تيريزا ماي بتفكك حزب العمال أيضا، وربما حتى القضاء على احتمال عودته إلى الحياة.
عندما ينهار حزب العمال بعد هزيمته في يونيو/حزيران، تُصبِح إعادة تنظيم السياسة البريطانية التقدمية أمرا شبه مؤكد. ومن المرجح أن تُفضي إعادة التنظيم على النحو الذي يوحد بين ساسة وناخبي حزب العمال الذين خاب رجاؤهم وبين الديمقراطيين الليبراليين، والخُضر، وربما القوميين في اسكتلندا وويلز، إلى نشوء معارضة أكثر فعالية من تلك التي تواجهها تيريزا ماي حاليا، حتى وإن حصلت هذه المعارضة على عدد أقل من المقاعد البرلمانية.
بحلول موعد الانتخابات العامة المقبلة، في عام 2022 في الأرجح، يُصبِح لدى القوى السياسية الدولية والتقدمية في بريطانيا خمس سنوات للاستعداد للتصدي للنهج المحافظ على طريقة تيريزا ماي والقومية الإنجليزية. وبحلول ذلك الوقت، سوف يكون المحافظون في السلطة لثلاثة برلمانات على مدار 12 عاما. وهذه هي الفترة التي يستغرقها البندول السياسي في بريطانيا تقريبا للتحول بين اليمين واليسار.
فضلا عن ذلك، ونظرا لتمديد الفترة الانتقالية للخروج البريطاني بفضل الانتخابات المبكرة، فلن تتجلى العواقب الكاملة لإنهاء عضوية الاتحاد الأوروبي، جنبا إلى جنب مع تناقضات الخروج البريطاني التي ينطوي عليها التحالف بين أنصار التجارة الحرة والقوميين المحافظين اجتماعيا وأنصار تدابير الحماية، قبل عام 2022 تقريبا. وفي الوقت نفسه، سوف تكشف الجهود الرامية إلى التفاوض على اتفاقيات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة والصين عن ضعف الموقف التفاوضي البريطاني. ونتيجة لهذا، ربما يتحول الرأي العام حول حكمة الخروج البريطاني إلى حد كبير بحلول عام 2022. وفي كل الأحوال، سوف تكون العلاقة المتغيرة مع أوروبا القضية الجوهرية التي تتجمع حولها القوى السياسية الليبرالية الاجتماعية والدولية بعد هزيمتها.
إذا افترضنا أن الاتحاد الأوروبي واصل في الوقت ذاته تعافيه الاقتصادي، وأن شراكة فرنسية ألمانية أكثر قوة دفعت منطقة اليورو بعد الانتخابات الفرنسية والألمانية هذا العام نحو التكامل السياسي الأوثق اللازم بوضوح لنجاح العملة الموحدة، في حين أوضحت الدنمرك والسويد وبولندا أنها لا تعتزم الانضمام إلى اليورو على الإطلاق، فربما يقرر الناخبون البريطانيون بحلول عام 2022 أن العودة إلى الاتحاد الأوروبي المزدوج المسار أكثر جاذبية من التماس شراكة صغرى مع الولايات المتحدة، ناهيك عن الصين. وهذا هو السبب الثالث الذي ربما يدفع المتشككين في أوروبا من المحافظين البريطانيين إلى الندم على انتصارهم الانتخابي الوشيك.
مهما حدث فإن المعركة الحاسمة في الحرب من أجل مستقبل بريطانيا في الأمد البعيد لن تكون الانتصار السهل هذا العام، بل سوف تتمثل في الصِدام بعد خمس سنوات من الآن بين المحافظين القوميين ومعارضة تقدمية جديدة متطلعة إلى المستقبل.
تيريزا ماي والانتصار باهظ الثمن
التعليقات مغلقة