سركون بولص
ناجح المعموري
وهذا ما كان مألوفاً ومعروفاً في نص أدبي صاغ ذاكرة تاريخ الحضارة الإنسانية ، فجرته كاهنة الرغبات شمخت بعدما أرسلتها الآلهة أنانا / عشتار إلى الصحراء من أجل ترويض أنكيدو الذي خلقته الآلهة / الأم الكبرى لمناصرة الفقراء ضد بطش الملك جلجامش في مدينة أوروك . ظل متوحشاً – أنكيدو – وسط البراري ، يعيش مع الحيوانات ويمارس ما تقوم به . اعتمدت كاهنة الرغبات على جسدها من أجل ترويض الإنسان المتوحش . وفعلاً ، تم للكاهنة – شمخت- ما أرادته الآلهة . كان جسدها اليقظ محركاً للطاقة لدى أنكيدو كي يتعلم تدريجياً ، حتى أكتسب كل الثقافة والمعرفة من خلال ستة أيام وسبع ليال ٍ هي الزمان الذي كان فيه أنكيدو ملتصقاً مع شمخت يتصل بها . وصار إنساناً مكتملاً وحضارياً ، ولديه استعداد تام للجذب نحو مدينة أوروك التي دخل لها مع كاهنة الرغبات .
الجسد في قصص سركون كنز متستر عليه ، ومتكتم على شفراته ، الأنثوي شعرياً ، وكما في السينما ، المتكتمة وغير مفضوحة الرسائل .
لم تبد المرأة في قصص سركون كلها شهوة / وجسداً مكشوفاً ، بل تعامل معها بانضباط عالٍ وحافظ على خصائصها ولم يدفع بها نحو رومانس العلاقة اللّذية المعلن عنها والمفضوحة . واجد بأن البحار السويدي معلن عن الاقتراب من الشرق ، هذا هو حلم الآخر ، لافتضاح أسراره التي كتب عنها الاستشراق وحتماً أراد من خلال الاستمتاع كحالة ثانية يوفرها الاتصال اكتشاف جسد المرأة الشرقية التي تحولت إلى الأساطير وحكايات في التوصلات الغربية التي أكدت على إن المرأة الشرقية بئر الرغبة التي لا تنطفئ . المرأة التي تسلط عليها الذكر وحجب كينونتها ومنح ذكورته تقديساً بالإضافة إلى امتلاكه حق التصرف بالجسد الأنثوي وعليها الاستجابة له . إذا حاولنا فحص قصص سركون مرة أخرى ، فإننا سنواجه ثانية / وثالثة …. الخ بأن العناصر التكوينية للقصص متقاربة / متشابهة مع بعضها والصياغة السردية متمتعة بخصائص سينمائية ، عالية التعبير في شعريتها .
الجسد في قصة ( النور ضعيف في السادسة ) محفوف بأساطيره المقدسة له ، الجسد الأمومي في مراحله اللاحقة ، هو الذي فتح المجال لقصائده وطقوسه الخاصة التي توارثها الإنسان وأشارت لها الكتب المقدسة ، والمرأة من ممنوحات الخالق للإنسان وعليه الدنو منها والتعرف عليها ، حتى يتمكن من الكشف عن قداسة مماثلة . وحافظ سركون على الجسد وكأنه من أسراره المقدسة ، صحيح أنه في أحيان يخدش كينونتها ويترك رغبة لا تعرف غير الاستدعاء للذكورة كما في قصتي ( القنينة ويجوب المدن وهو ميت ) . نساء هادئات محفوفات بالسرية ، لا يفرط بهن القاص ويخضعهن للذكورة سريعاًُ ، وبتمتع شعري . وقدرة عالية على معرفة اللغة وأسرارها ، جواهرها ، لذا كانت قصصه وتجربته من أهم التجارب الفنية التي عرفتها مرحلة الستينات ليس في العراق وإنما في الوطن العربي .
ذهب الراوي بعد استيقاظ رغبته الى البيت الواطئ وأشار للبحار السويدي عليه .. هذا هو كل ما تضمنته القصة من جنس بالإضافة إلى ما قاله الشاب الذي جاء إليه ووجده في بيت الفلاح وأخبره بأن زوجته حامل بولد وقد خانته وهو لا يقدر فعل شيء . أخوها عاجز عن كبح تمردها وسقوطها ، لكنه دعا الراوي للعودة سريعاً إلى بيته .
{ وأفزعني الصمت . صرخت وأنا أتفجر دون أن أملك السيطرة على نفسي :- ولكن لماذا كان عليها أن تفعل ذلك هل سألتها ؟
– هل سألتها أيها الوغد قبل أن تأتي لتعيدني ؟
…………..
– ولماذا فأنت بالله
أخذت اعوي بكل صوتي فنهض من مكانه وأخذ يحاول تهدئتي .
– لماذا خانت ، ألم تقل لك ؟ كأي ساقطة
تحديته أن يأتي بأي حركة ، وأخذت أردد أقوالي مهووساً بعذابي الخاص . ثم تمالكت نفسي وذهبت إلى الزاوية حيث الماء فغسلت وجهي وقلت بصوت مختلف وبهدوء :
– أنت تعرف كل شيء ، وإذا أحس رجل بأن زوجته تخونه فله الحق في أن يذهب بالطبع . أن يسافر نحو الجحيم . أن يلعب أية لعبة يشاء ومخطت أنفي.
– هيا . سافر الآن .
– وأنت / ص84} .
الكتم كامن في هذه القصة وغيرها ، لأن سركون لا يكتب قصة تقليدية مثلما كان شائعاً في السابق ، بل هو يكتب سرداً تغذيه لغة خاصة / محفزة وكأنها مسحوبة من الأعماق والمناطق المظلمة. وتأثير تجربته في كتابة الشعر كبير واستثمر وعيه ومداركه حول تنافذ الفنون بعضها مع البعض الآخر ، مثل الشعر / السرد / التشكيل / السينما / وسركون بولص ممارس لهذه التنوعات الفنية ، هي واضحة وغير متخفية في قصصه ، بل كانت ملحوظة تماماً ، وساهمت بإنتاج قصص عالية المستوى وحفزت المتلقي على تأملها وإعادة قراءتها ، ظل سقوط الزوجة سرياً لم يكشف الراوي أو الأخ بعض من أسبابها وتركها السرد غائبة تماماً لم يمنحها وجوداً مشاركاً ، واكتفت بالإشارة إلى الخيانة فقط . وأهم خصائص القصة لدى سركون بولص هو الإبقاء على السرية وتفجر رمزية عالية الدلالة حتى التقريع الذاتي ، تسلط يلفح روح الراوي . ولحظة تذكره لخيانتها ( أخذت اعوي بكل صوتي ) والراوي متماثل مع شخوص القصص الأخرى في التمرد / الانفلات على السائد والثابت / ( ومخطت أنفي ) وكأنه يرغب بالتخلص مما علق به من زوائد وأوساخ . لذا قال بعد تمخطه :
– هيا . سافر الآن ؟
– وأنت .
طرد أخ الزوجة ، لأنه لا يحمل حضوراً لها ، بشكل من الأشكال . واكتفى الراوي بالصمت عندما سأله : وأنت .
ولم ترد إشارة في القصة لفكرة العودة إلى بيته ، واعتقد بأن الراوي حالم بالهجرة ومغادرة البلد وهذا هو السبب الجوهري الذي جعله يختار الميناء مكاناً لهروبه وبحثه عن الخلاص من مطاردة الخيانة له .
وعودة لخصائص سركون السردية ، الهدوء في زحزحة التقليدي وتفكيك السياقات الثابتة ، ودائماً ما استعان بالصوت الواحد والثاني على تدمير الثابت وتنوع الأصوات معدوم . وتعدد الأصوات – ثلاثة مثلاً – تظهر متماثلة لأن الراوي هو الذي يقودها ويضفي عليها ثقافته ، لهذا نجد الثقافة والفكر متماثلة ، ومتكررة في قصصه والشفيع لها هو آليته الفنية التي تصوغ سردياته بفنية عالية .
ومنح الراوي نفسه إمكانية التوجه إلى مكان ما ، ما دام وجد زوجته تخونه . لذا فكر بالسفر ( نحو الجحيم ) . وحاول الشاب التخلص من قسوة الزوج ودلائل تصرفاته الرمزية فقال باضطراب :
– سأذهب . ولكن أرجو أن تعود / ص84 .
وجد الراوي / الزوج نفسه متحفزاً بعد ذهاب الشاب . وشيء يشبه الطوفان ملأ أعصابه فجأة ، مثلما وجد نفسه بحاجة للتهيؤ ، فوثب من السرير وهو لا يعرف إلى ماذا تهيأ للمغادرة خارج الغرفة ، حيث كان بمواجهة الحصان الذي رآه أول مرة عبر النافذة ، هذا الحصان المربوط إلى وتد غاص في الأرض ( اكتشف ذلك الوتد لأول مرة كأنني اكتشف الوتد الذي ربطوني به وملئتني رائحة الحيوان المريحة بشجن صبياني . ولكن لماذا فعلت التافهة ذلك بأي حق ؟ وانطلقت أسير دون غاية) / ص85
لم يكن سائراً نحو بيته وعائداً إلى مدينته السابقة ، لأن الخائنة طردته منهما وربطته كالحصان إلى وتد نازل في الأرض . شعر بأنه اكتشف بوقت مبكر الوتد المربوط له . سار منطلقاً وبدون غاية . هذا أمر صعب وهكذا هي شخوص سركون ، لا تعرف شيئاً عن الذي تريده أو لا تريد الحياة التي هو فيها . متمردة ، طافرة من هدوء الحال إلى موقد اللوعة والقلق .
ظل يتذكر الشاب ويستعيد صورته . ما زال له حضور واضح ، حتى الراوي اندهش لأنه فكر به . لكن سؤالاً طفر عن وجود الشاب في هذه المدينة الملاصقة للبحـر.