آخر العمالقة

ليس من السهل خلق بنية تحتية للمسرح في أي بلد من البلدان من دون مقدمات منطقية، تؤمن له ما يحتاجه من المستلزمات، وتمده بما لا يستغني عنه من الخبرات. فليس من السهل الحصول على نصوص وديكور وصالات ومخرجين وفنيين في بلد لم يجرب المسرح من قبل. ولا بد لتدارك ذلك من الاستعانة بالخارج. وهذا هو بالتحديد ما فعلته دولة عربية صغيرة هي الكويت غداة حصولها على الاستقلال عام 1961.
لقد أحست هذه الدولة أن بيئتها المقفرة تفرض عليها توفير أجواء خاصة من المتعة والبهجة والمعرفة لأبناء البلاد. فكان أن فكرت باستقدام فرق مسرحية عربية تقدم عروضها في مواسم خاصة، وفي ذات الوقت تقوم بتأسيس حركة مسرحية محلية. وهكذا سار الأمر في اتجاهين. وأسندت المهمة الثانية إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، التي بادرت لتشكيل فرقة المسرح العربي على الفور. وكان وراء المشروع رجل دولة من طراز فريد، امتلك مواهب فنية متعددة. فكان موسيقياً، وملحناً، وممثلاً، ومخرجاً، وكاتباً. هذا الرجل واسمه حمد الرجيب شغل منصب وكيل الوزارة في حينه. فقام بالتعاقد مع المخرج المسرحي المصري الكبير زكي طليمات، للإشراف على هذه الفرقة. فلجأ الأخير للاستعانة ببعض موظفي الوزارات الأخرى الذين أبدوا رغبتهم في العمل فيها. وهؤلاء هم رواد الحركة المسرحية في الكويت، ونجومها الأكثر شهرة حتى يومنا هذا. ولعل من أقدرهم على الإطلاق .. عبد الحسين عبد الرضا!
من الطريف أن عبد الحسين هذا (مواليد 1939) هو في الأصل موظف في وزارة الإعلام التي كان يطلق عليها اسم الإرشاد والأنباء! ولم تستغن عنه الأخيرة إلا بعد جهد جهيد، مع أن المسرح هو أحد الأذرع الإعلامية المهمة. كان عبد الحسين قد درس الطباعة في مصر وألمانيا على نفقة هذه الوزارة وبات من الصعب عليها إيجاد بديل عنه. وكان لا بد من تدخل أولي الأمر لحل المشكلة. وهكذا انتقل الشاب إلى وزارة الشؤون، وبات القاسم المشترك في معظم المسرحيات التي قدمتها فرقة المسرح العربي حتى بعد تخلي وزارة الشؤون الاجتماعية عنها عام 1964 وتحويلها إلى فرقة أهلية.
ولكن سر نجاح عبد الحسين عبد الرضا لا يكمن فقط في موهبته العظيمة بل بالوعي الذي امتلكه هو وزميله الذي افترق عنه في ما بعد سعد عبد الله الفرج، الموظف في وزارة العدل! حتى قال برلماني كويتي يوماً إن عبد الحسين هو وزارة إعلام بحد ذاته، وعلى الدولة أن تنصت إلى آرائه وتوجيهاته! كان عبد الحسين قد انتقد الدولة لتقاعسها عن حل مشكلة «البدون» المستعصية في مسلسل «العافور». كما سخر بمرارة من الجماعات السلفية المتشددة في مسرحية «فرحة أمة». وحوكم بسبب مسرحية «هذا سيفوه» بالسجن ثلاثة أشهر مع وقف التنفيذ، وأطلقت النيران على سيارته وهو متوجه إلى المسرح لعرض مسرحيته الشهيرة «سيف العرب» التي سخر فيها من .. صدام حسين!
برحيل عبد الحسين عبد الرضا قبل أيام خسر العرب قامة فنية ليس من السهل تعويضها، سواء بقدراتها الكوميدية، أو بوعيها الاستثنائي، أو بحضورها العريض. وستبقى إطلالاته على الشاشة الصغيرة التي قدم لها عدداً من أنجح الأعمال الدرامية على الإطلاق، مصدر بهجة وفرح وعناية الملايين من العرب .. حتى إشعار آخر.
محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة