قصيدة النثر والمقتطفات النقدية المطبوعة على أغلفتها

تمثيل على (سرطان نثر أسود) لعلي وجيه
د. نادية هناوي سعدون

ليست قصيدة النثر في ديوان( سرطان نثر أسود) للشاعر علي وجيه مجرد نص من كلمات وبنى.. إنها كائن أثير وهلامي وجزء صميم من تكوين الشاعر النفسي والعضوي وهذا الكائن الحميم حدوده البيت ومرتعه الغرفة وفضاؤه العائلة لهذا يتساءل الشاعر بعد هذا التقارب الجينالوجي كيف يكتب القصيدة ويمضي؟ ومساميرها علقت بقميص الروح؟
وإذا ما تمددت القصيدة ولم تسعها الغرفة فإنها تخرج إلى حدود الحديقة لكن البيت يظل هو فضاؤها الذي لا تهجره وميدانها الذي تعرفه وتاريخها الذي لن تنساه وهي تستعيد ذكريات نموها مع الشاعر لتكون الكيان الطافح بالحياة والحركة، لا الصورة المجسمة حسب..
وفي الجزء الثالث من مجموعة سرطان نثر أسود والمعنون بـ(كفنٌ مزركش بالسنوات) تتحول قصيدة النثر إلى قصيدة قبورية ترثي تراجيديا الحياة السوداء..كما في( زيارة مفتوحة لقبري) حيث تغدو القصيدة قبرا بلا ملامح وكيانا خارجا عن الزمان والمكان وحمامة بلا هديل..
وتعمل انثيالات الأسئلة في قصيدة( أوراق عن عازف الطبل) على تحويل المشهد الشعري إلى مسرحية مونودرامية فيها الذات تسأل بلا مجيب يشاطرها صراعها:
ومن ضرب لكم مثلا قبلي؟
ومن فتح جوارير أحلامه قبلي؟
ومن اعتذر لكم قبلي؟
ومن قال لكم إننا أخطاء قبلي؟
ومن قال لكم إننا نصفع قبلي؟
مثل عازف طبل يهز رأسه مع يديه
تهتز أعمارنا راقصة مع قبورنا
لا احد يدوزن أصدقاءه من سوف يكتبكم ان مت؟
(عازف الطبل يموت وحيدا:
ولا يعرف انه كان نبيا) ص124ـ126
وكذلك تغدو قصيدة( عليٌّ بابها ) مونودراما ترسم الكاميرا فيها تراجيديا حركة البطل الميت داخل المقبرة… إلى غير ذلك من القصائد التي تضمنتها هذه المجموعة الشعرية.
وهنا نتساءل: أين الإشراق في قصيدة النثر عند الشاعر علي وجيه، مما كان المقتطف النقدي الذي وشَّح خلفية المجموعة الشعرية( سرطان نثر أسود ) قد وسمها به ؟!!
وما يهمنا من هذا المقتطف الذي تم حصره ـ على صغره ـ داخل مستطيل في الغلاف الخلفي هذا النص( شعر مشرق لشاعر تجهده اللغة ويجهدها بموهبة لا مراء فيها )
ومعلوم أن عبارة( شعر مشرق) فضفاضة كونها غير مستقرة على أساس إجرائي ناهيك عما فيها من حتمية التعميم التي تقتضي الانطباق أو التوافق مع أغلب متون النصوص التي حوتها المجموعة الشعرية أو على الأقل مع بعضها..
وهذا ما لا وجود له في المجموعة بتاتا بدءا من انعزالية قصيدة النثر داخل جدران الغرفة ووصولا إلى تجسدها كقصيدة محتفية بالمقابر ومتعالقاتها ….وهذا ما يجعل هذه الإشارة النقدية أشبه بالالماحة العائمة المبنية على نظر عجول واستقراء غير متريث وبالشكل الذي سطَّح النقد وجعله لا يغور في السطور متسرعا غير باحث عن مخبوءات النصوص.
ويبدو أن بعض نقادنا لا سيما أولئك الذين اعتادوا أن يضعوا مقتطفات على منشورات ابداعية شعرية أو قصصية صارت تطغى عليهم النظرة العجلى والتسرع المحذور متوهمين أنهم يعطون أحكاما نقدية أو آراء تحليلية تتسم بالصدقية والموضوعية.
وليس عيبا أن يكون النقاد محتفين لكن العيب أن يعدوا احتفاءهم نقدا ومجاملاتهم تحليلا مبتعدين عن معايير النظر النقدي وشروطه الصارمة ومولين ظهورهم لنظرياتهم ومدارسه غير مكترثين بالقراء الذين ينبغي على الناقد أن يضعهم في باله ويوجه جل اهتمامه لهم .
أما عدم تواني الناقد (المقدم) أو( المذيل) لمجموعة شعرية أو نثرية عن الإتيان بكليشيهات جاهزة أو ريبورتاجات ليست من النقد في شيء ليلصقها عنوة ومن دون اكتراث على نص لا يناسبها ولسان حاله يقول إن الذين يقرأون هم بالتأكيد أقل من الذين يكتبون، فإنه بفعله هذا لا يضر المنشئ صاحب النص حسب بل يعمي القارئ ويحتال عليه..
وواحدة من جماليات قصيدة النثر عندنا في العراق أنها تحتاج قارئا لا متلقيا كونها لا تكاشف صوتا ولا تفصح دلالة بل تراهن على الذي يقرأ سطورها لتتحداه وتبعث فيه التحفيز، مستفزة مخزوناته ومستنفرة حواسه وموقظة ذخائر قراءاته كي يرصد المغيب والمتدارى.
وهذه المراهنة على القارئ هي التي تجعلنا نسم قصيدة النثر اليوم بأنها قصيدة جديدة لا يتم تلقفها كتلقف قصيدة العمود التي صلحت وستظل تصلح لشعر المنابر والمنصات بعكس قصيدة النثر التي تظل قصيدة تأمل وتأنٍ حذرين وليس مجرد علائقية شعر بنثر كما ورد في المقتطف..
والسبب أن الحديث عن هذه العلائقية ما عادت لها فاعليتها النقدية بعد أن جعلتها النظريات الحداثية ممجوجة ومجترة.
أما مسألة تأثير الحرب والمصير والعزلة على الشاعر فذلك ما نبذته الأنا الشاعرة في( سرطان نثر اسود) حين جعلت لقصيدة النثر خصوصيتها المكانية التي منها تطل على الواقع الراهن لتتصارع مع ملابساته بحلم ذاتي متخيل، فيه القصيدة محصورة في ثلاثة أبعاد : البعد الأول انعزالي مثلَّه فضاء الغرفة الصغيرة والبعد الثاني جنوسي مثلَّته القصيدة الانثى/ الطفلة والبعد الثالث تراجيدي مثلَّته القصيدة المقبرة. ..يقول الشاعر علي وجيه في قصيدة عنوانها (طريق للقصيدة):
قبل أن أملا أكياس نسياني بالذكريات الجديدة ارتديت وجه نبي أعرفه وتساءلت:
إني لأكتب الآن القصيدة غير عارف ما الطريق؟ وكيف يتخذ الحرف شكل الشفاه المليئة بالرحيل؟ وكيف استمر مهرولا بين اللفظ والفكرة العصية وترويض الورقة الميتة؟
فالأنا هنا تحاول أن تعرف كنه قصيدتها وأن تضع توصيفا لها يحدد أبعادها وأطرها لعلها تجد لها اسما يناسبها كي يكون حضور القصيدة هو حضورها.. فأين التوثيق، وأين الشعر المشرق، بعد هذا كله ؟!!

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة