بين بغداد والاقليم

 علي صابر محمد *

ما زالت وتيرة التوترات بين بغداد واقليم كردستان في تصاعد مستمر والتصريحات المتشنجة ما انفكت تأخذ طريقها الى وسائل الاعلام وتلقى رواجاً في اوساط المتطرفين من جميع الطوائف والملل من دون بصيص أمل لانفراج الازمة المستعصية بينهما وكأننا نعيش عصر الجاهلية وغزوات القبائل المتناحرة وكأن رياح الحضارة والتقدم لم تصل الينا بعد ، وبرغم انتهاء جولة الانتخابات ونشر أسماء الكتل التي ستتصدر المشهد السياسي ومعرفة كل كتلة حجمها البرلماني الا ان جميع الفائزين هم تقريبا الفرسان أنفسهم الذين كانوا في طليعة العملية السياسية في الدورة السابقة سواء من العرب او الكرد او التركمان والذين امتاز خطابهم السياسي بنكهة طائفية أو قومية محضة مع تنقيحات بسيطة وتعديلات طفيفة لبعض الوجوه وهؤلاء أدرى بمسالك وطرق التحالفات والاصطفافات التي تؤمن لهم مصالح كتلهم مع غياب تام للهوية الوطنية ، ووسط هذه المناكفات والتخندقات الضيقة تضيع حقوق المواطن العراقي وتموت أحلامه ويبقى أسيراً لأجندات القوى المتصارعة في الساحة ، ولعل أكبر محاور الخلاف بين بغداد والاقليم هو ما يتعلق بتوزيع الثروات من نفط وموارد المنافذ الحدودية اضافة الى تحديد مناطق النفوذ وخاصة بالنسبة لما يسمى بالمناطق المتنازع عليها والتي يطمح الاخوة الكرد التمدد فيها وضمها الى حضن الاقليم ، وكنتيجة لتباين الرؤى حول توزيع الثروة النفطية وانفجار أزمتها بعد المحاولات الكثيرة لتهدئة الاطراف لم يتم اقرار موازنة الدولة لسنة 2014 وقد قضمنا اكثر من خمسة أشهر من السنة المالية ولا تلوح في الأفق رغبة بإقرارها وانما على العكس اذ توجد توجهات لتأجيلها وترحيلها الى البرلمان الجديد ويبدو ان الكتل المتنفذة ترى في ورقة الموازنة وتعطيلها أداة ضغط تستعمل لتحقيق اهداف سياسية مع العلم بانه سبق و حصل التوافق بين الكتل الحاكمة ومنذ الاطاحة بالنظام الدكتاتوري على منح الاقليم ما نسبته 17% من موازنة الدولة لعدم وجود احصاء سكاني يبين العدد الحقيقي للكرد في العراق علما بان موارد العراق متأتية في معظمها من واردات بيع النفط والتي تشكل نحو 93% من موازنة الدولة ، وتأريخياً ومنذ ان ظهر النفط في العراق قبل اكثر من قرن لم تكن محافظات الاقليم منتجة له وان معظم النفوط المباعة خلال مئة عام هي من المحافظات الجنوبية وخاصة محافظة البصرة والبعض الآخر من كركوك والموصل واذا كان اكتشاف النفط في اقليم كردستان وانتاجه وتسويقه عاملاً من المفروض ان يكون ايجابياً بدعم موازنة العراق وتطوير البلد وتحسين احوال الناس الا ان ذلك تسبب في خلق المزيد من الاشكالات وعجل في اقدام الاقليم على اتخاذ خطوات نعتقد أنها متسرعة وفي غير اوانها ولعل ابرزها تصدير نفط الاقليم عبر تركيا ومن دون حضور وموافقة الحكومة الاتحادية وكذلك التلويح باجراء الاستفتاء بشأن حق تقرير المصير والانفصال عن العراق ، وتعلن الحكومة المركزية بأن موازنة 2014 قد بنيت على اساس قيام الاقليم بتصدير ما قيمته 400 ألف برميل يومياً وعلى ان تدخل مواردها الى الخزينة المركزية لتوزع بعدها على ابواب الانفاق الاعتيادية للدولة بضمنها حصة الاقليم ويبدو ان الاقليم لم يقدم دولاراً واحداً الى الخزينة المركزية من مبيعات النفط ولا يكشف حقيقة مبيعاته مما سبب عجزاً واضحاً في الموازنة والتي اضطرت الحكومة الى استقطاع مبلغ تلك الاضرار الناجمة عن عدم تسليم الايرادات الى بغداد من حصة الاقليم في الموازنة وحسب القوانين النافذة وهذا الاجراء العقابي أجج الوضع وأثار حفيظة السياسيين الكرد وخاصة المتطرفين منهم ليطلقوا التهديدات غير المتوازنة وكانت السبب في حصول أزمة السيولة النقدية في الاقليم وعدم توزيع رواتب الموظفين فيها وما أعقبها من تداعيات في مسلسل الفعل ورد الفعل ، ان مطالبة الاقليم بحصتها البالغة 17% من موازنة الدولة من دون ان تشارك في رفد الموازنة بمبيعات نفط الاقليم يعد مطلبا غير مقبول في جميع المعايير بل ويستفز المحافظات المنتجة للنفط لأن تحذو حذو الاقليم ويعني ذلك تفكك البلاد وتحويل الوطن الى اقطاعيات للمحافظات المنتجة للنفط وانتشار الفوضى ، وفي الوقت الذي نقر بأن من حق الكرد اقامة دولتهم واثبات هويتهم القومية ولهم حق الانفصال وبعدها لهم مطلق الحرية بتصدير نفطهم لتحقيق الموارد لدولتهم ، نرى ان هذه الخطوة في ظل بقائهم ضمن دولة العراق تأتي منسجمة مع التخطيط الاستراتيجي للمنطقة التي من ضمن فقراتها تقسيم البلاد على اسس قومية وأثنية وهذا بالضد من طموح وتطلعات الشعب العراقي ومخالف للدستور الذي وافق عليه الكرد باعتبار الإقليم جزءاً من العراق وصوت الناخب الكردي على بقاء كردستان ضمن الدولة العراقية وفي اطار دولة اتحادية وعلى الكتل الكردستانية اللجوء الى طاولة المفاوضات والاحتكام الى الدستور والاصرار على حل الخلافات عن طريق التفاوض وابداء عراقية المتفاوضين ويجب ان لا ننسى ان المركز هو أيضاً قد اخفق بشكل واضح باحتواء ليس الكرد فحسب بل وحتى المحافظات المحسوبة على العرب السنة والتعامل معهم بروحية الاب الراعي لأولاده ، وكل الذي ظهر على سطح الاحداث من ممارسات يغلب عليها الصبغة الطائفية والعشائرية والمناطقية الضيقة. 

لقد اوضح الدستور العراقي في الباب الرابع المادة 111 بان النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كل الاقاليم والمحافظات وتعامل مع حق الملكية كشعب ولم يشر الى حق تصرف الاقاليم او المحافظات بمعزل عن المركز كون العراق بلداً واحداً يحكمه دستور مصادق عليه من الشعب ويحافظ على وحدته ونصت المادة 112 أولا بأن تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الاقاليم والمحافظات المنتجة على ان توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع انحاء البلاد وهذه المادة صريحة في ان ثروة النفط والغاز المستخرج من كل انحاء البلاد توزع على جميع ابناء الشعب من شماله الى جنوبه مع مراعاة الانصاف في التوزيع كذلك لم يغفل الدستور المحافظات التي تضررت بفعل الحروب العدمية للنظام البائد والمحافظات غير المنتجة للنفط ومنحها حقا منفصلا ومن الخطأ استئثار اقليم او محافظة بثروتها وحجبها عن الخزينة المركزية للبلاد ، كذلك جاءت المادة نفسها في ثانياً بأن تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الاقاليم والمحافظات المنتجة معا برسم السياسات الاستراتيجية المطلوبة لتطوير ثروة النفط والغاز بما يحقق أعلى منفعة للشعب العراقي وهنا تأكيد على الدور الفاعل للمركز بالتنسيق مع الاقاليم والحكومات المحلية برسم السياسة النفطية ووضع آليات تسويق النفط والالتزام بالسقوف التي تحددها منظمات اوبك واوابك سواء من حيث الكمية المصدرة او أسعار البيع العالمية بما يحافظ على قيمة هذه الثروة وصيانة لثروات البلدان وان الخروج على ضوابط هذه المنظمات العالمية بالبيع خارج اطار الاسواق العالمية يعد اضراراً بموارد الدولة وتدميرا للأسعار العالمية ، وان عدم تمكن البرلمان من اقرار قانون توزيع الثروات أتاح للوحدات المحلية الاجتهاد في تفسير الدستور الى المستوى الذي يسلب الاهداف السامية المتوخاة منه وان عدم اقرار مثل هذه القوانين المهمة من قبل البرلمان العليل جاء بفعل الخلافات السياسية التي رافقت تشكيل الحكومات المتعاقبة مما أدى الى اخفاق الكتل الحاكمة في ادارة ملفات كثيرة مثل الملف الامني والانتخابات وقانون الاحزاب ومنها ملف توزيع الثروات من نفط وغاز. 

ان رهان بعض القيادات الكردية على تركيا بدعمهم في تحقيق اهداف داخل العراق يعد رهاناً مصحوباً بمخاطر جمة ان لم يكن تسليماً لمقدرات الكرد بيد تركيا مستقبلا ، فتركيا بلد كبير وقوي ولديها اقتصاد متين وعلاقات سياسية متشابكة وتحالفات استراتيجية مع القوى العظمى وموقع رصين عالمياً وتختزن قياداتها السياسية الكثير من طموحات الهيمنة في المنطقة وقد مدت خلال العقدين الاخيرين جسور استثماراتها في اقليم كردستان العراق الى مستوى بات تأثيرها واضحاً على القرار السياسي الكردي ولديها مساعٍ لحث الاقليم على اتخاذ مواقف ضاغطة على بغداد ولأسباب سياسية عديدة ضمن صراع المحاور في المنطقة الملتهبة ولا يهمها ان تصدعت العلاقة بين المركز والاقليم وهنا تكمن الخطورة في ان تتحول دولة الكرد الناشئة بمرور الزمن الى أداة بيد تركيا القوية ذات التاريخ الاستعماري في حين ان الحكومة العراقية ولدت ضعيفة وستبقى ضعيفة ما دامت أسيرة النزاعات الطائفية والاجندات الخارجية ومن مصلحة الكرد البقاء في الحاضنة العراقية سيما وان دورهم وتأثيرهم على القرار العراقي أقوى من المركز وأكثر رصانة بالرغم من وجود التباين في المواقف بين مكونات التحالف الكردستاني وبإمكانهم ان توفرت النوايا الحسنة لعب دور كبير في تقويم وتعديل مسار العملية السياسية المتلكئة في العراق سيما وأن لهم الخبرة السياسية الجيدة والافق المتنور وعدم خضوعهم للتخندقات الطائفية التي يعاني منها المركز.

*خبير مالي

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة