العراق يواجه الاختبار الكبير

بغداد – جاين آراف *

ترجمة الهادر المعموري

مع اول انتخابات تخوضها البلاد بعد رحيل الاميركيين قبل 4 اعوام, يكافح العراق بهدف تجنب التقسيم والتفكك وسط عنف متصاعد وشلل سياسي كبير.

كان هوشيار زيباري وزير خارجية العراق ينظر عبر زجاج نافذة الطائرة المروحية العسكرية التي مرت عبر الشريط المائي الازرق الذي فصل القوات المتحاربة ضمن واحدة من أسوأ واشرس حروب التاريخ الحديث. لقد كانت تلك الطائرة الروسية الصنع التي تشكل جزءا من سلاح الجو العراقي الصغير, كانت تطير فوق منطقة شط العرب التي تفصل الجارين, العراق وايران, فضلا عن كونها رسمت التاريخ الصاخب للبلدين.

ابان مد مائي منخفض, تبدو هياكل ناقلات النفط البحرية المدمرة غارقة في الاوحال والصدأ. ان تلك البقايا الصدئة تظل شاخصة وتشير الى بشاعة تلك الحرب الضروس التي طحنت البلدين لثمانية اعوام قبل اكثر من 3 عقود مضت, تلك الحرب التي اندلعت جراء قضية العبور على الشريط المائي الضحل الذي يعد الممر المائي العراقي الوحيد المؤدي الى الخليج.

يقول زيباري الذي كان احد رجال البيشمركة السابقين وحارب صداما من داخل الجبال فضلا عن كونه شغل المنصب ذاته منذ الاطاحة بالنظام السابق, يقول عن هذا الموضوع معلقا “حينما تنظر الى هذا المشهد على الارض, فأن لك ان ترى حساسية هذه القضايا ومعها مقدار غباء القرارات التي تسببت بدمار هذا البلد.” ويضيف زيباري كذلك “منذ ان تأسس العراق, فأنه كان وما يزال يعاني من هذه القضية. لقد كان هذا البلد دوما ضحية للجغرافيا والتاريخ.”

والان, بات العراق يواجه لحظة صاخبة جديدة في تاريخه المعاصر, لحظة ترتبط بالتاريخ والجغرافيا. فبعد مرور 11 عاما على اطاحة الولايات المتحدة بدكتاتورية صدام حسين, تحولت موارد الاهتمام مما كان يمثله العراق كبلد يسعى للهيمنة وتهديد المنطقة, تحولت الى شيء آخر يتمثل في ما اذا كانت الانقسامات الداخلية التي تمزق البلاد قد تقود الى تفككها في النهاية.

عبر ارجاء البلاد, تبدو الصدوع واضحة وبارزة في مشهد البلاد السياسي والاجتماعي, الامر الذي يعزز الاختلافات التي تعصف بالعراقيين وطوائفهم المختلفة, تلك الاختلافات التي امتدت لعقود طويلة.

ففي محافظة نينوى شمالي العراق, يريد المحافظ حالة ادارة شبه مستقلة للمحافظة التي ترتبط بعلاقات مع الاكراد. اما الاكراد الذين امكن لهم التخلص من سطوة الحكومة المركزية في العراق منذ العام 1991, فقد سعوا الى توثيق علاقات قوية مع ايران التي تعد العدو السابق لتركيا.

وفي محافظة الانبار غربي العراق, تحولت الاحتجاجات ضد تهميش العرب السنة, الى اعمال عنف راديكالية, فيما تبدو مشاهد القتال العنيف الذي خاضه الاميركيون في الفلوجة شاخصة في الافق, في وقت تعاني فيه بعض مناطق بغداد السنية من اغلاق كلي يستمر لايام متواصلة على يد القوات الامنية العراقية التي تقيد حركة الداخلين والخارجين منها واليها.

وبالرغم من ان معظم العراقيين يأملون في بقاء العراق متحدا, الا ان آخرين يرون ان قوى الابتعاد والانفصال والتصعيد العنيف والتحشيد الطائفي انما ستدفع الى بلقنة البلاد.

عن هذا الموضوع, يعلق سعد اسكندر, وهو استاذ في العلوم السياسية ويدير دائرة الارشيف الوطني العراقي في بغداد التي تضم وثائق ومعلومات كبيرة عن حقبة طغيان صدام, يعلق بالقول “ان القوى الساعية للتفكك تبدو اكبر واقوى بكثير من تلك التي تسعى للوحدة.”

لكن تفكك العراق سيكون له عواقب خطيرة وكبيرة على مستقبل الشرق الاوسط وما بعده. ان هذا الامر اذا ما تحقق, فأنه سيعيد معايرة وتوزيع القوى في المنطقة ما بين دول الخليج السنية التي ما تزال معادية لحكومة العراق الشيعية, فضلا عن كونه سيطلق مارد صراع كبير من عقاله, مارداً يرمي للسيطرة على مكونات العراق الاضعف ومعها حقول نفطه العملاقة.

فضلا عن ذلك, فأن هذا التفكك يمكن ان يتسبب في عملية اعادة رسم كبيرة وموسعة للحدود عبر ارجاء المنطقة التي باتت تمر اصلا بحالة تغير عنيف وصادم. ان الخلافات العرقية والقبلية التي تسبب بها الربيع العربي انما باتت تضغط على الحدود المصطنعة والغربية التي رسمتها قوى الاستعمار قبل قرن من الزمان, تلك الحدود التي تمتد من سوريا الى ليبيا وحتى اليمن. كما ان عراقاً مفككاً سيمثل صورة احراج كبيرة للولايات المتحدة التي خسرت اكثر من 4500 من جنودها مع انفاق اكثر من ترليوني دولار بغية استبدال الدكتاتورية السابقة بدولة ديمقراطية موحدة.

لكن برغم كل تلك العلامات الرهيبة, الا ان العراق لم يتبلقن الى يوغسلافيا جديدة بعد. ان اختباراً كبيراً مر بالعراقيين في الـ30 من نيسان الماضي حينما توجه العراقيون الى صناديق الاقتراع.

لقد اصر رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي على اجراء الانتخابات في موعدها برغم كل العراقيل والتعقيدات. عن هذا الموضوع, يعلق علي الموسوي وهو احد المستشارين الاعلاميين لرئيس الوزراء العراقي قائلا “لقد تمكنا من تنفيذ انتخابات مجالس المحافظات حينما كان العنف بوضع أسوأ”. وحسب وجهة نظر الحكومة العراقية, فأن الامور في تحسن مستمر. وحسب الموسوي, فحينما بدأت الاحتجاجات السنية, كانت الاتصالات مقطوعة بين الجانبين فيما باتت موجودة الان بين قادة تلك الاحتجاجات ومعهم زعماء العشائر من جهة ورئيس الحكومة العراقية من جهة اخرى.

ويعتقد الموسوي انه برغم التحديات الامنية التي تعصف بالعراق ومحيطه الاقليمي, الا ان البلاد باتت ابعد عن شبح التقسيم من اي وقت مضى. من جانبهم, فأن المالكي ومستشاريه يرون المعركة الحالية في الفلوجة والرمادي ومدينة الكرمة على انها تمثل معركة وجودية يضخ وقودها زعماء الدول السنة في المنطقة, هؤلاء الذين لم يقبلوا يوماً بوجود حكومة شيعية في وسطهم.

ويضيف الموسوي “يوجد الان لدينا تحد كبير, لكن العراق سيصبح افضل حالا بعد هذه التحدي.” ويضيف كذلك “لو اننا تمكنا من هزيمة هؤلاء الارهابيين في باقي المناطق وفي الفلوجة والكرمة, فأني اجزم لك ان هذه الازمة الطائفية ستكون الاخيرة وحسب.”

ضمن مؤتمر عقد في مقر الجامعة الاميركية في السليمانية ضمن الاقليم الكردي شمالي العراق, كان المتحدثون يتجادلون بخصوص مستقبل العراق ومتغيرات المنطقة السريعة. عندها, تقدم وزير خارجية تركيا, احمد داود اوغلو واعتلى المنصة.

لكن اللافت لم يكن في فحوى كلام اوغلو، انما في الطريقة التي تحدث بها حينما ادلى بكلامه باللغة الكردية. لم يمض وقت طويل في تركيا منذ ان كان القانون يجرم استعمال اللغة الكردية المحلية في الحديث بين المواطنين الاكراد الاتراك. لكن هنا, كان الموقف مختلفا, حيث كان المتحدث تركيا ينطق الكردية الموجهة الى الاكراد. عندها انفجرت القاعة بالتصفيق الحار.

لقد كان ذلك الوصف الموجز دليلا على طبيعة العلاقات المتنامية بين اقليم كردستان وتركيا, هذين الجارين اللذين لطالما تمثلت علاقاتهما الماضية بالعداء والخصومة الشديدة, فيما تغيرت الاحوال بعد الازدهار المتنامي الذي بات يشهده الاقليم. ابان تسعينيات القرن الماضي, كانت كردستان عبارة عن خرائب جراء العقوبات التي فرضها دكتاتور بغداد على الاقليم نتيجة انفصاله عن المركز, فضلا عن المعانات التي تسببت بها العقوبات الدولية التي فرضتها الامم المتحدة ضد العراق جراء غزو صدام دولة الكويت.

اما اليوم, فان ناطحات السحاب بنيت, فيما تم تطوير واستثمار موارد الطاقة الطبيعية في الاقليم. وها هي اموال الاستثمارات الاجنبية تتدفق من الصين وغيرها لتزيد الاقليم أعماراً وأزدهاراً. وفي عراق مقسم, فأن الاكراد برغم انقساماتهم الداخلية, انما باتوا يمثلون عاملاً قوياً وفاعلا في صنع الصفقات السياسية في البلاد. ولنا ان نذكر ان رحلات الطيران بين العاصمة بغداد واربيل عاصمة الاقليم ومعها مدينة السلميانية الكردية انما تغص بالسياسيين العراقيين جيئة وذهاباً.

من بين هؤلاء السياسيين كان حاجم الحسني, وهو سياسي سني فضلا عن كونه شغل منصب رئيس الجمعية الوطنية العراقية السابق. لقد كان الحسني من بين جملة حضور مؤتمر الجامعة الاميركية, الا انه كان يسعى للاتصال بالقادة الاكراد محاولا صنع تحالف يأتي على احلام المالكي بولاية ثالثة. وترفع جماعة الحسني التي تطلق على نفسها تسمية “المسقبل الجديد,” ترفع شعارات تركز على توفير خدمات افضل وخلق فرص عمل اكثر عبر تنمية الاسواق وتعزيز اقتصاد السوق.

ويعلق الحسني قائلاً “اعتقد اننا نقترب اكثر فأكثر لكن مع وجود جماعات سنية وشيعية اخرى كذلك .”

كما ان جهوداً مماثلة تسير بالاتجاه ذاته في انحاء اخرى من العراق حيث تتغير خارطة التحالفات السياسية التي تجمع وتفرق الجميع. لكن مع كل نشاطه واندفاعه, تبدو حظوظ المالكي بولاية ثالثة محدودة وغير متوقعة. وبالنسبة لزعيم يتوفر على كل العداوات السياسية الحالية, فأن المالكي برهن عن مرونة غريبة وغير متوقعة كذلك.

فخلال السنوات الاربع الماضية, ترأس المالكي فوق تحالف حكومي هش جمع الشيعة مع الاكراد بعد فشل حزبه بكسب ما يكفي من المقاعد لتشكيل حكومة اغلبية وحده. ويقول المنتقدون ان المالكي عمد منذ العام 2010 الى الالتفاف على الدستور بغية الاستيلاء على السلطة التي فشل في كسبها عبر صناديق الاقتراع, الامر الذي دفعه الى خلق اجهزة امن واستخبارات ومؤسسات لا تعمل الا بأمرته ولا يمكن استجوابها او التحكم بها من قبل غيره.

وقد كان متوقعاً ان تؤدي خطوة انسحاب الزعيم الشيعي مقتدى الصدر من العمل السياسي, كان متوقعا لها ان تفيد المالكي بطريقة تسمح للاخير بكسب اصوات كثيرة في المناطق الفقيرة التي تضم شيعة محرومين يأملون في الحصول على وضائف وخدمات افضل.

كما ان الانقسامات الكردية قد تفيد المالكي كذلك, حيث ان غياب رئيس الجمهورية الكردي جلال طلباني الذي يخضع لعلاج طبي مستمر منذ وقت طويل انما قاد الى صراع قيادة داخل الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يعد احد الاحزاب الكردية الرئيسية الثلاثة في البلاد. وحتى بعد مضي 6 اشهر على انتخابات مجالس المحافظات في الاقليم, فأن الاحزاب الكردية لم تتمكن الى الان من الاتفاق على شكل حكومتها الاقليمية.

في سياق متصل, يعلق السيد فؤاد حسين الذي يشغل منصب كبير موظفي الرئيس الكردي مسعود برزاني, والذي يؤمن بان الخصومة الشيعية-السنية انما يحتمل لها ان تفكك البلاد, يعلق بالقول “لا اتصور ان الاكرد سيقودون الى تفكك العراق.”

لكن المالكي قد يعاد انتخابه من قبل الاحزاب التي لا تثق به ذاتها مرة اخرى.

وهنا, يعلق اسكندر قائلا عن الاحزاب الكردية “بعد مضي عقدين من الزمن, تعلم الاكراد درس التسوية. لقد عمت حرب اهلية ذلك المكان في تسعينيات القرن الماضي. وقد تعلم هؤلاء الدرس بدقة حيث يعلم هؤلاء جميعا انهم سيخسرون جميعا اذا ما تحاربوا فيما بينهم. انهم متفقون على وجوب وقف الدكتاتورية في بغداد. لكن ما هو البديل يا ترى؟ هل يتمثل ذلك في الوقوع تحت سيطرة ايران او تركيا؟ انهم لا يملكون سوى بغداد”

اما المالكي, فأنه ينتفع بدعم القوى الخارجية كذلك. وهنا, يعلق الحسني قائلا “لا اتصور حصول تغيير جذري عبر الانتخابات, حيث ان المالكي سيبقى في مكانه معتمدا على دعم الاميركيين والايرانيين على حد سواء. وداخليا, يتوفر المالكي على سلطة القوات المسلحة.”

ولاشك ان ذلك واضح عبر ارجاء بغداد حيث تنتشر اللافتات الحكومية الكبيرة التي تصور الجنود وافراد القواد الخاصة جنباً الى جنب مع المواطنين الإعتياديين في عمل مشترك يهدف للقضاء على تنظيم داعش الارهابي في العراق. لكن من يقف في مقدمة تلك الصور واللافتات؟ انه رئيس الوزراء نوري المالكي.

ان تلك الصور واللافتات تمثل محاولة من جانب حكومة المالكي لتصوير البلاد على انها تمر عبر صراع بطولي ضد قوى الشر, لاسيما في الفلوجة التي كانت مشهداً سابقاً لبعض من اشرس معارك الاميركيين اثناءالحرب. لكن العديد من السياسيين يتهمون المالكي بأستخدام القوات المسلحة بغية تحقيق اهداف سياسية, فيما يرى العديد من السنة هذه الاعمال على انها تمثل محاولة لمعاقبة المدينة التي كانت وما تزال تعارض الحكومة.

وحسب احد المسؤولين العراقيين الشيعة ممن رفضوا الافصاح عن هويتهم لحساسية الاشارة للاعمال العسكرية الجارية في محافظة الانبار انه قال “ان ما يقوم به المالكي يمثل عملا خطيرا جدا.” واضاف المسؤول ذاته بالقول “انك ستعمد الى تدمير المدن والقرى والحط من كرامة الناس. ولن يغفر هؤلاء ذلك ابداً. انهم اناس عشائريون.”

من جانبهم, يقول دبلوماسيون غربيون ومعهم مسؤولون عراقيون ان مقاتلي تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام انما سيطروا على الفلوجة بعد ان انطلقت القوات العراقية لفض مخيمات الاحتجاجات واعتقال احد الزعماء السنة, فيما كان المالكي, وما يزال, على وشك اتخاذ قرار بتنفيذ هجوم مدمر ضد المدينة, لكن ذلك كان قبل ان يتحدث الى مسؤولين اميركيين.

وحتى من دون تنفيذ ذلك الهجوم, فأنه ليس هنالك من شك بان مدينة الفلوجة التي تقع على مبعدة 70 كيلو متراً عن العاصمة بغداد انما غرقت في صراع شامل مرة اخرى. وصحيح ان قوات الجيش العراقي ومعها وحدات القوات الخاصة العراقية تمكنت من احكام سيطرتها على معظم ارجاء الرمادي, الا ان القتال من اجل الفلوجة انما يمثل تحدياً خطيراً من نوع آخر.

يقول المسؤولون الامنيون والسياسيون ان القوات العراقية انما لم تكن قادرة على كسر شوكة المقاتلين العشائريين المتحالفين مع القاعدة والدولة الاسلامية في العراق والشام.

كما يقول احد الدبلوماسيين الغربيين معلقا “استطيع القول بوجود تقدم جار مع العشائر, الا انني لابد ان اكون صريحاً لاقول ان العشائر ليست متناغمة مع بعضها.” ويضيف الدبلوماسي الغربي ذاته كذلك “في بعض الحالات, تبدو هذه العشائر منقسمة داخلياً, فضلا عن ان ولاءاتها تتغير يوماً بعد يوم. انهم يبحثون عن منتصر ورابح اكيد كي يجاهروا بمواقفهم.”

يقول مسؤولون عراقيون ان اكثر من 80% من سكان الفلوجة فروا من مناطق سكناهم. وفي الوقت الذي توجهت الآلاف من العائلات من ذوي الدخل المتوسط طلبا للمأوى في الاقليم الكردي الامن نسبيا, فان العديد من الاضعف حالا اضطروا للجوء الى مدينة سامراء الواقعة الى الشمال من بغداد. وعلى ما يبدو, فأن معظم هؤلاء ما يزالون في انتظار تحديد الجانب الذي سينتصر بغية تقديم ولاءاتهم حتى مع حقيقة ان البعض حسم امره وحدد لمن يكون ولاؤه.

و عن هذا الموضوع, يعلق احد السكان وهو عامل اكتفى بتسمة نفسه بأسم صلاح, والذي كان معتقلا لدى القوات الامنية العراقية لمدة اسبوع مؤخراً, يعلق بالقول “اتمنى هزيمة القوات الامنية.” ويضيف صلاح كذلك “ان الامر ليس سوى موضوع وقت وحسب قبل ان يحقق الثوار النجاح وينتصرون. انها حرب فارسية ونحن السنة ليس لدينا من حل سوى ان نخلق حكومة مستقلة في العراق من اجل شرفنا وكرامتنا.”

اما بالنسبة للاميركيين الذين لعبوا دوراً كبيراً في خلق العراق الجديد, فان هذا ليس, بالتأكيد, البلد الذي توقعوا رؤيته.

عن هذا الموضوع, يعلق السفير الاميركي السابق في العراق للفترة من 2005 الى 2007, زلماي خليل زاد, يعلق بالقول “لقد كنت آمل بوضوح ان يصبح العراق بلدا افضل حالا مما هو عليه الان.” ويضيف زاد بالقول “لقد كان هنالك بعض التقدم فيما يخص انحسار العنف مع تقدم نحو تحقيق حكومة وحدة وطنية حقيقية. لكن منذ رحيل القوات الاميركية عن البلاد, وبما ان هنالك حربا دائرة في سوريا, فان لهذين الامرين تأثيراً سلبياً قوض من نجاحات ما تحقق في العراق.”

في منطقة الشرق الاوسط حيث مضالم وشكاوى الدول ما ابتعدت عن الطوفان على السطح قط, تبدو تموجات الانقسام التاريخي السني-الشيعي ذات اصداء واضحة ومسموعة جدا. لقد وجه المالكي شهر آذار الماضي, وجه الاتهام المباشر للسعودية وقطر بتمويل الارهاب في محافظة الانبار. ومع اشتداد معارك الحرب في سوريا, باتت محافظة الانبار غربي العراق تمثل قناة وصل وانتقال لمقاتلي القاعدة. ان هؤلاء المقاتلين المتطرفين يرون فرصة في اعادة اذكاء نيران الحرب الاهلية تمتد ما بين العراق وسوريا وما هو ابعد من هذين البلدين.

يقول المسؤولون العراقيون انهم في الوقت الذي تبرز اوجه تشابه مع ظروف العام 2004 حينما امكن لتنظيم القاعدة ان يسطر على المدن الكبرى وحتى مناطق ضمن العاصمة بغداد, فأن العراق, حسب قول هؤلاء المسؤولين, يبدو اكثر استقراراً. وعن هذا الموضوع, يقول السيد صفاء رسول الشيخ الذي يشغل منصب مساعد مستشار الامن الوطني العراقي, يقول انه في اثناء الحرب الاهلية, اندفع العراقيون نحو المليشيات الشيعية او تنظيم القاعدة جراء حالة الفراغ الامني في البلاد. اما اليوم, فأن القوات الامنية العراقية المدربة بشكل جيد انما باتـت قـادرة على توفيـر الامن للبلاد.

و يضيف الشيخ كذلك “اثناء العام 2004, كان معظم السكان, بدرجة او بأخرى, يدعمون المتمردين. لكن هذا الوضع لم يعد كذلك الان”

داخل قاعة حوار للفن التشكيلي في احدى مناطق بغداد الراقية سابقاً, يتفرج الفنان التشكيلي قاسم سبتي على الجدران وهو يلحظ الاعمال الفنية التي لم تجد لها مشترياً, اعمال ملونة وبراقة لفنانين شبان, فضلا عن دراسات عن المشهد الفني لفنانين عراقيين واعمال سيراميكية بالخط العربي. اما المقهى الواقع في الحديقة مجاور المعرض, فأنها تستعمل كنوع من الصالون الثقافي للفنانين والشعراء والكتاب.

ابقى سبتي على معرضه مفتوحا اثناء السنوات العجاف للعقوبات الاقتصادية ابان تسعينيات القرن الماضي, وحتى اثناء سنوات العنف الطائفي ما بعد العام 2003. لكن ضمن بلد لطالما عرف بدعمه للفنانين, بات الامر اكثر صعوبة على هؤلاء كي يكسبوا عيشهم. وقد اضطر اكثر من 200 من الفنانين العراقيين للهجرة عن العراق خلال السنوات القليلة الماضية.

يقول سبتي الذي يرأس اتحاد الفنانين العراقيين معلقا “ان العديد من الفنانين الذين تركوا العراق انما لم يكن قرار رحيلهم بسبب العنف, وانا اقسم على ذلك. ان السبب من وراء ذلك يعود الى انهم ما كانوا قادرين على تحصيل لقمة عيشهم.” ويستشهد سبتي بأمثلة الفساد المستشري في وزارات ومؤسسات الدولة وصولا الى طلاب الفنون الجميلة الذين يسعون لاعتماد الرشاوى بغية الوصول الى عرض اعمالهم. ويضيف سبتي قائلا “لقد انحدر المجتمع بقوة.”

لكن انحسار العنف قبل سنوات لم يكن ليسهل الحياة اليومية في شيء. فبعد 3 سنوات من الهدوء النسبي الذي عم ارجاء البلاد, باتت السيارات المفخخة والتفجيرات الانتحارية والعنف والقتل جزءا من حياة الناس المعتادة وسط العراق. خلال الاشهر الماضية, وصلت ارقام ضحايا العنف والتفجيرات في العراق الى اعداد تناهز نظيراتها في سوريا, الامر الذي حرك مشاعر خوف عميقة لدى العراقيين من عدم مقدرة قواتهم الامنية على الامساك بزمام الامور, او انها فقدتها اصلا.

على الطريق الى الشمال من كركوك, تحكي صور اثار النيران على الجدران والفتحات اثر التفجيرات في قبب المساجد, تحكي كلها قصة القتال الذي اندلع مؤخرا في مدينة سليمان بيك. لقد وجدت القوات الامنية العراقية نفسها محاصرة في قتال شرس ضد جماعات يعقتد انها بقيادة بعض من انصار الدكتاتور السابق, الامر الذي دفع الاهالي الى النزوح عن مدينتهم. وفي هذه الاثناء, واثر معارك الكر والفر والاحتلال والانسحاب للمناطق والابنية, شقت الخنادق ووضعت المتاريس الرملية لتحيط المدينة كاجراء دفاعي عنها.

اما في بغداد, فان الجنود يقفون متفرجين على مشهد نهر دجلة وهو يمر في مداخل ضمن المنطقة الخضراء المحصنة التي كانت تؤوي وتحمي الشخصيات الاجنبية في اثناء ايام الحرب. وبعد مرور 11 عاماً على الاطاحة بدكتاتورية صدام, ما يزال الزعماء العراقيون والدبلوماسيون الاميركيون وغيرهم من البعثات الدبلوماسية الاخرى, ما يزالون يحصرون انفسهم بطريقة العزلة المادية ذاتها التي كانت ولا تزال منذ نشأة المنطقة الخظراء على يد الاميركيين. ان المنطقة الخضراء ما تزال محصنة بالجدران الكونكريتية المسلحة العالية, لتصبح مدينة داخل المدينة الاكبر التي لا يحلم فيها العراقيون الا بصور الحياة الممكنة خارجة بلادهم.

ما بين ابناء الطبقة العراقية المتوسطة, تتمحور الكثير من الحوارات حول من تدبر امر هجرته وما هي الطريقة الامثل للقيام بذلك. وفي الوقت الذي ينتظر فيه الآلاف ترحيلهم كلاجئين الى الولايات المتحدة ضمن برنامج سمات الدخول الخاص, فان مئات الآلاف غيرهم انما يتخذون طريق الهجرة واللجوء عبر تركيا شمالا.

و في هذا السياق, تتحدث احدى عمال الفنادق ممن عملن لصالح الاميركيين وتقدمت بطلب للحصول على سمة دخول كمهاجرة الى الولايات المتحدة في مطار بغداد برغم رفضها الافصاح عن اسمها, قائلاً “لقد انتهى العراق.” فيما بدت امرأة كبيرة في السن داخل مطار بغداد, بدت محتارة من امرها حول كيفية الحصول على طائرة تقلها الى بريطانيا كي تعيش مع ابنتها هناك.

اما الطائفة المسيحية العراقية, فقد تعرضت الى ضربات موجعه بوجه خاص. وهنا, يعلق السيد كانون اندرو وايت الذي خدم في كنيسة القديس جورج الانجليكانية في بغداد منذ ما قبل الحرب, يعلق بالقول ان اكثر من 1000 من رعية كنيسته قضوا قتلا خلال السنوات الـ5 الاخيرة. ويضيف السيد وايت قائلا “قبل عامين, كان المسيحيون مستهدفين بوجه خاص. اما الان, فان الجميع بات مستهدفاً, واخذ القتل يطول الجميع دونما استثناء.”

مشكلات لا تنتهي

ضمن فسحة عقد من الزمن, بات الفساد المستشري في جسد الدولة العراقية وباءا يمتد من طلب الرشوة بطريقة روتينية بغية تمشية المعاملات الحكومية وحتى استحصال عقود بمليارات الدولارات لشراء الاسلحة والاعتدة والمعدات العسكرية للعراق. وحتى ان طلاب الجامعات باتوا يشترون الدرجات باسعار محسوبة.

وفي مدينة البصرة, تمتلئ الاقنية النهرية الداخلية بالقذارة والنفايات والمياه الاسنة الخضراء وروائحها التي لا تطاق, في تلك المدينة التي كانت من اكثر مدن الخليج اناقة في يوم من الايام. اما المناطق والاحياء الفقيرة التي عاقبها صدام بالحرمان من الخدمات لثورتها الشيعية ضده ما بعد هزيمته وطرده من الكويت, فما تزال على حالها وشكلها ووضعها من دون اي تغيير يذكر.

وهنا, يتحدث السيد قاسم قاصد, وهو مدير حجوزات في احد الفنادق البصرية قائلا “انني اريد الدول الغربية ان تعلم ان هذه هي عاصمة العراق النفطية, الا اننا لا نتوفر على كهرباء ولا حتى ماء نظيف.” وقد بدرت ملامح السخاء العراقي المشهور على السيد قاصد الذي اصر على ان يقود السيارة بنا ونحن ضيوفه الى السوق بهدف ان يشتري لنا شاحنا كهربائيا لهاتفي.

في منطقة الجزائر التي تعد المركز التجاري الرئيسي في البصرة, افتتحت الكثير من المتاجر والمحال ضمن شوارع مكتضة ومزدحمة من دون ممشى او رصيف. وفي ميناء ام قصر القريب, ما تزال سفينة تركية وصلت الى العراق بموجب عقد مؤقت, ما تزال منذ 3 سنوات تولد الطاقة الكهربائية لصالح الشبكة الوطنية العراقية المتقادمة, وتعويضا عن نقص امدادات محطات التوليد العراقية المتهالكة.

وبرغم كل هذه الصعاب الاليمة, برهن العراقيون عن مرونتهم اللافتة. فضمن احد الايام القريبة في بغداد, اندفع عدد من الطلاب الذين كانوا بأنتظار تخرجهم من الجامعة في وقت قريب من هذا الربيع, اندفعوا الى احد النوادي في منطقة المنصور الراقية في بغداد بغية الاحتفال بمناسبة تخرجهم. اما الفتيات الشابات من حضور الحفل, فقد ارتدين الملابس المعدة للسهرة مع الاحذية عالية الكعوب كي يستمعن الى اغاني الفرقة الموسيقية التي احيت الحفل. كما ان بعض سيارات الطلاب انما كانت مزينة بالزهور والشرائط الملونة فضلا عما كتب عليها من عبارات عن مناسبة التخرج.

ان منطقة المنصور التجارية والسكنية الراقية باتت تشهد عودة للحياة وصعوداً لافتاً من جديد بعد افتتاح مركز تسوق تجاري حديث وكبير يغص بالمتبضعين والمتفرجين والسلع الاجنبية المستوردة والمطاعم, فضلا عن الالعاب ودور السينما المجسمة. كما ان مطعما لبنانيا فتح ابوابه في احد الشوارع التجارية في بغداد مؤخراً, حيث انطلق في جمع الزبائن واحراز الاعجاب والارباح في آن واحد. وبالرغم من ان العراق ما يزال يمر في مرحلة اعادة اعمال تتكلف بضع مئات من المليارات من الدولارات, ولاسيما لقطاع الكهرباء المتدهور, الا ان سكان بغداد تمتعوا مؤخراً بأمدادات طاقة كهربائية استمرت لـ24 ساعة في اليوم.

وفي شهر شباط الماضي, ارتفعت صادرات العراق النفطية الى اقصى مستوياتها خلال 30 عاما, لكن مع حقيقة ان لا ثروة لمست حياة الناس او ترجمت الى تحسن في واقع الخدمات العامة. اما الارتفاع في معدلات اجور العاملين في القطاع الحكومي, فقد حسنت بدورها من مستوى المعيشة العام للسكان في البلاد, الا ان هذا التحسن انما زاد من حالة الهوة الشاسعة التي تفصل بين الفقراء والاغنياء. ففي منطقة الجادرية الراقية في بغداد, تبرز لافتة على احد مراكز التجميل تحمل عنوان “عيادة باربي” التي تدعو زبائنها الى اجراء عمليات ازالة الشعر بالليزر ومعها شفط الدهون وتكبير الشفاه.

وعن هذا الموضوع, تعلق السيدة ماري هيلين برينكل التي تشغل منصب الممثل الخاص للبنك الدولي في العراق, تعلق بالقول “هنالك الان في العراق نخبة حضرية تتمتع بقدر كبير من الرخاء جراء الكثير من المتغيرات التي حصلت في البلاد, متغيرات اكسبت البعض الكثير وحرمت البعض الاخر من الكثير كذلك.” وتضيف برينكل كذلك “ان هنالك عدداً متزايداً من الناس الذين لا يشهدون او يلمسون اي تحسن في نوعية حياتهم, تلك الحياة التي باتت تتدهور نحو الاسوء في واقع الحال.”

وما يزال العديد من العراقيين الذين بقوا في العراق, لا يزالون يتذكرون كيف كان هذا البلد مكانا يتعايش فيه الجميع معاً. ويأمل هؤلاء في ان لا يتفكك البلد او يتقسم. انهم لا يأملون الا بعودة حس الحياة الطبيعية الى زمنهم وحسب.

في بغداد, وداخل مقر ادارة قناة تلفزيون العراقية الحكومية, ما تزال الصحفية العراقية نرمين المفتي التي غطت اخبار الحرب العراقية الايرانية, ما تزال تعمل في اول قناة تلفزيونية عراقية ناطقة باللغة التركمانية تمولها الحكومة. ولسوف تعمل وتركز هذه القناة على استعادة وترسيخ مفهوم التعددية لثالث اكبر طائفة عرقية في البلاد.

وعن هذا الموضوع, تعلق المفتي بالقول “ليس لدينا اي خيار آخر. ولا بد لنا من البقاء معا.” وتضيف المفتي كذلك “ان هذا البلد يمثل مكاناً متعدد الثقافات. كما ان حضارتنا بنيت على اساس هذه الاختلافات. وان لك ان تشعر ان ثقافتنا ليست عربية صرفة, وانما لها نكهة تركمانية واخرى كردية, ومعها نكهات آيزيدية ومسيحية. وحتى في الموسيقى, فأن لك ان تستشعر ذلك التنوع في النكهات وفي كل شيء.”

وختمت المفتي كلامها بالقول “ان هذا الوصف يمثلنا وحسب.”

* عن “كرستيان ساينس مونيتور”

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة