تداعيات فكرية عامة على هامش انتظار النتائج الانتخابية المرتقبة

 علي عبد العال *

في البدء يتحتم علينا القول أن العملية الإنتخابية البرلمانية التي جرت بالعراق يوم 30/نيسان أبريل/2014 حققت تطوراً نوعياً ملحوظاً عن سابقاتها، تجلى هذا التطور النوعي بإرتفاع نسب المقترعين من الناخبين العراقيين في الكثير من الدوائر الإنتخابية والإقبال الكبير على صناديق الإقتراع على الرغم من جميع الصعوبات الميدانية والظروف الأمنية السائدة وما صاحبهما من ترويج الشائعات من قبل الإرهابيين حول موجة التفجيرات الإنتحارية التي سوف تُنفذ في أيام الإقتراع بالذات. لكن الشعب العراقي سجّل نقلة نوعية بتحديه الكبير لجميع هذه المخاوف والتهديدات الإرهابية الظلامية وذهب ابناؤه الشجعان ببسالة وإرادة حرة وقوية لإعلان صوتهم على الملأ، في الداخل، وفي المنطقة الأقليمية المحيطة بالعراق، وعلى الصعيد العالمي.

الإشادة الدولية بالمنجز العراقي 

جميع هذه الأطراف الداخلية والأقليمية والدولية اشادت عبر مراقبيها الميدانيين ووسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء بهذا النجاح الكبير الذي حققه الشعب العراقي وخوضه الإنتخابات البرلمانية وسط هذه الأجواء الأمنية الهشة المحفوفة بجميع المخاطر والتوقعات السيئة بهذا المستوى من الزخم العالي. ونال الشعب العراقي التقدير والثناء من قبل الكثير من دول العالم الحر جراء إقدامه الكبير على التصويت بنسب ضاهت أكبر الديموقراطيات المستقرة في العالم. هنيئاً للشعب العراقي الذي أدرك جيداً أن صوته هو الذي يحسم عملية التقدم والتطور المرتقبة لدور العراق المقبل على الصعيد الداخلي والدولي كدولة عصرية قدّم فيها الشعب العراقي هويته الجديدة كشعب يؤمن بالتغيير عبر صناديق الإقتراع وليس عن طريق القتل والذبح والإجرام الذي تحاول بعض الزمر الظلامية والشراذم الشاذة عن طبيعة هذا المجتمع إلصاقه به زوراً وبهتانا.

في الوقت ذاته سوف نلقي الضوء على بعض الثغرات القليلة التي أقترفها بعض المرشحين من السياسيين وليس الناخب العراقي الذي رسم أروع المشاهد الحضارية بالألتزام والتفاني الحضاري من أجل وطنه ومستقبله وحريته وكرامته، وهذا ما مثل بحق مشهداً تاريخياً يضع العراق والعراقيين على عتبة مسقبل يبشر بالخير والنماء.

يبقى أن نقول ونحن نرتقب النتائج النهائية التي سوف تسفر عنها عمليات الفرز، وهذا من باب التذكير والتحذير للسياسيين على شتى مشاربهم ومساربهم وكتلهم وائتلافاتهم عدم إرتكاب أية أعمال وممارسات خاطئة تسيء لإرادة الشعب العراقي والتلاعب بها سيكون ذلك بمنزلة العار تحت الأنظار لكل من تسوّل له نفسه تشويه وتخريب هذه الصورة الناصعة التي قدمها الشعب لنفسه وللعالم أجمع وهو قد حمل دمه على كفه وخرج لكي ينتخب مستقبله ومستقبل وطنه.

أفكار على هامش الإنتظار 

علينا الإنتظار ربما طويلاً بعض الشيء؛ أطول من المسافات التي قطعناها سابقاً للوصول إلى النتائج الانتخابية المرتقبة. الوصول إلى نتائج الانتخابات وسط أجواء يسودها الغموض المحفوف بالآمال العريضة بالتغيير النوعي على الصعيد الأمني والإستقرار السياسي والتحسن الاقتصادي والتطور الاجتماعي والعلمي الذي يليق ببلد يؤمن حقاً بالنظام الديموقراطي وليس شكلياً. في هذه الأجواء من الترقب والأنتظار التي تتخللها التصريحات الطائشة والتوقعات المتباينة، ومن ثم التكهنات والتحليلات المتسارعة الإيقاعات التي تدور حول تشكيل الحكومة الجديدة والعتيدة. أمامنا طريق طويل من الإنتظار، كل هذا أمر جيد ويمكن تحمله بصبر وأناة بعد أن تمت الانتخابات البرلمانية العراقية على ما تمت عليه من سلاسة ووعي وطني وقلة التضحيات من قبل الأبرياء.

وضعت الانتخابات العراقية أوزارها كما حرب مرهِقة للشعب وللقوى الأمنية التي نشيد بدورها الكبير في السيطرة على مجريات الأمور وبدرجة عالية من الدقة والتنظيم؛ وشال العمال الصبيان والشحاذون في الواحد من أيار ما تبقى من لافتات المرشحين العملاقة ليبيعوها في سوق الخردة مقابل بعض النقود التي لا تساوي قيمتها مهما بلغت من الثمن سد رمق مواطن جائع. أسقطت رياح العراق العاتية الكثير من المرشحين قبل أن يسقطهم الشعب بصوته الحر الذي لا يمكن التكهن بمجرياته وحيويته المقبلة. الشعب العراقي أقدم على خطوة كبيرة وعملاقة في التاريخ السياسي العراقي الحديث، ليس في العراق حسب، وإنما في تاريخ المنطقة الاقليمية برمتها.

ما يجري بالعراق الجديد ليس كما يجري في الكويت والسعودية وقطر؛ ما يجري بالعراق الجديد هو تأسيس لديمقراطية حقيقية نوعية بطابعها السياسي المتطور ومفهومها الديموقراطي الحقيقي. وإنما تتجاوز المحيط الإقليمي من المملكة العربية السعودية حتى تركيا العثمانية بحلتها الجديدة في عهد أوردغان. يبقى العراق يتمتع بأهمية سياسية واقتصادية واجتماعية كبرى كدولة تمتلك نصف ثروة العالم من النفط، هذا ما يشد إليه أنظار المجتمع الدولي والقوى العظمى على مر التاريخ. 

لا تتأتى الأحقاد المبطنة من قبل دول الخليج العربي على العراق لأسباب طائفية فقط، وإنما لأسباب حضارية وثقافية تعجز عن تخطيها مثلما تخطاها العراق الجمهوري عقب ثورة 14 تموز 1958. وكذلك دول الجوار الأخرى مثل إيران وتركيا، اللتان تريان بالعراق قوة اقتصادية واجتماعية وحضارية قابلة للتنافس القوي والشديد معهما عندما ينهض العراق من جديد. والحال يحلو للجميع تدمير العراق وجعله يستمر بالعيش في هذا الكابوس لأوقات أطول. بيد أن هذا الوضع يفرز بدوره عناصر مقاومة جديدة تتمثل بزحف الشعب العراقي الحثيث نحو الممارسة الديموقراطية كفعل سياسي جماهيري يقوم على أسس دستورية هي قيد الولادة، لكنها ستكبر كما يكبر الكائن البشري الحر الجديد.

لسنا نبالغ بالتغيرات الجوهرية التي سوف تفرزها نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في 30 نيسان/ أبريل/ 2014 ولكننا نفتخر ونزهو بالوعي السياسي والحضاري والوطني للشعب العراقي الأصيل بالمشاركة الواسعة بتلك الانتخابات، تلك النسبة التي لا تتحقق في أعتى الدول الديموقراطية الأوروبية المتطورة. هذا هو النسغ الجديد الذي يتصاعد في شجرة العراق الجديد، عراق المستقبل الديموقراطي الحقيقي المقبل.

عباءة الدين ومفاهيم

بعض المرشحين..

تشتد حاجة المشتغلين بالسياسة إلى المرجعيات الدينية كلما أشتدت حاجتهم للتسلط والنفاق وكسب المزيد من النفوذ السياسي والاجتماعي؛ تلك معادلة سياسية مازالت قيد الإستعمال في جميع بلدان العالم من غير إستثناء. فمهما بلغت الدول الأوروبية خصوصا، والعالم الغربي عموماً من التطور الحضاري والديموقراطي، تبقى الكنيسة تلعب دوراً مهماً في حياة تلك الشعوب وإن كان متخفيا ومتستراً تحت أردية وعباءآت ومسوح الورع والتقوى. ويبقى الفاتيكان مهما بلغ من الصغر يؤثر في الكثير من القرارات الدولية ذات الشأن الخطير، ناهيك عن التأثير المباشر على ملايين المؤمنين المسيحيين في أصقاع المعمورة.

هذا الأمر ينطبق بصورة أشد تركيزياً وأكثر وضوحاً في المجتمعات الشرقية، ومنها العراق بالذات، التي لم تخض مخاضات التجربة الأوروبية السياسية ولم تشهد التطور الاجتماعي النوعي بعد الصراع المرير الذي كافحت فيه الشعوب من أجل نيل حرياتها العامة وحرياتها الشخصية وتحريرها من قبضة الكنسية وأحكامها المتخلفة والمجحفة بحق رعاياها التي بلغت حدود الإستبداد المطلق في الكثير من الحقب الزمنية المظلمة. ضحت تلك الشعوب بكل ما تملك في سبيل نيل حريتها وإنعتاقها من ربقة الكنيسة ورجالها الجشعين. لم يتأت ذلك عبر الكلام والشعارات الطنانة والرنانة، وإنما جاء عبر تضحيات جسيمة أدت بالأرواح التي عُلقت على أعواد المشانق ووضع الرقاب تحت المقاصل وتم حرق المفكرين والعلماء والأدباء والشعراء علناً هم وكتبهم ومؤلفاتهم الرائعة التي بقيت هي وحدها شاهدة على هذا التاريخ البشع الذي مرت به الدول الأوروبية في عصر سيطرة الكنيسة على الدولة عن طريق عباءة الدين.

نحن الدول المسماة بـ «الإسلامية» في الشرق الأوسط لم نخض غمار هذه التجارب بعد. وليس لدينا لا الجرأة ولا الأسلحة الآيديولوجية والفكرية الحضارية للقيام بمثل تلك التجارب الرائعة. بل على العكس، ننحدر إلى الخلف، ونعود للخنادق والبؤر الصغيرة خوفاً من رجال الدين الأقوياء وسلطانهم على الدين والدنيا. رجال الدين أقوياء ومؤثرون على الرغم من ظهورهم العلني كرجال أتقياء ورعين. ذلك يتطلب الكثير من رجال العلم ورجال الفكر ورجال الأدب، بل ونساء الفكر ونساء الأدب ونساء العلم، إذ لايستقيم أي مجتمع حضاري على قدم واحدة هي قدم الرجل، وإنما يقوم على قدمين ثابتتين على أرض الواقع هما قدم المرأة وقدم الرجل سواء بسواء، وهذا ما تحقق بالأمس القريب في العراق الجديد بالرغم من حروب الإرهاب الذي يرتدي عباءة الدين وهو يطمس بالتخلف والأفكار الظلامية البعيدة كل البعد عن جوهر الدين الإسلامي، بل عن جوهر جميع الأديان السماوية. إنه تحد كبير جسده الشعب العراقي وسط جميع المخاطر والتهديدات المحيقة به.

العناصر الجوهرية التي قادت المجتمعات الأوروبية للتوصل إلى هذا المستوى العلمي والحضاري والتكنلوجي التي هي عليه الآن هي عناصر فكرية بالأساس. كانت الكنيسة ـ الدين يمنع على الشعوب التفكير الحر وخوض غمار التجارب العلمية التي تتناقض مع مفهوم الكنيسة الثابت ومن خلفه رجال الدين المتحجرون. وأرادت الكنيسة إعدام العالم الجليل غاليلو لأنه أكتشف كروية الأرض ضد المفهوم الكنسي السائد آنذاك بأن الأرض مسطحة. وكما أثبت أن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس. وهذا ما جعل الكنيسة برجالها الأقوياء تتهمه بالكفر والجحود والزندقة ومن ثم الحكم عليه بالقتل.وتراجع غاليللو عن جميع طروحاته العلمية للخلاص من حكم الإعدام بقولته الشهيرة: «الحقيقة موجودة والكذب زائل».

ثم قال رجل آخر هو مفكر من الطراز الرفيع، ذلك الفيلسوف الفرنسي العظيم فولتير: «ربما لا أتفق معك بالرأي ولكنني أضحي برقبتي كي تقول رأيك». أنتج الفكر الأوروبي فكراً مضاداً للنظام الديني الكنسي الذي كان يهيمن على مقدرات الشعوب في القرون الوسطى وبدأت هذه الأفكار الجديدة تغزو شعوب أوروبا الواحدة تلو الأخرى. فإمتد تأثير الثورة الفرنسية التي أطلقت شعار «الحرية والمساواة والأخاء» كمفاهيم بشرية وإنسانية جديدة ما زال العالم الأوروبي الحديث يعمل على وفق مضامينها الجوهرية حتى الوقت الحاضر.

لا تأتي التغييرات الأجتماعية عبر القيادات السياسية فقط، وإنما تأتي عبر الإرادة الجماهيرية الحرة بضرورة التغيير. القيادات السياسية هي في الغالب عناصر بيد جميع المنحرفين عن الطريق الصحيح، نعني بذلك طريق الحق الواضح المتعلق بالمجتمع والفئات المسحوقة منه. ذلك ما لا يخطر على رجال الدين الدجالين ولا على الساسة المنحرفين الذين لا يهمهم أي شيء عدا حصد الأموال الطائلة حتى لو كانت تسهم في تخريب المجتمع بأسره من أطفال ونساء وتلاميذ صغار. 

نعود للتجربة السياسية الديموقراطية الحديثة الجارية بالعراق؛ حيث يتلفع الكثير من الساسة العراقيين بالعباءة الدينية، ومنهم من ارتدى عباءة المرجعية الدينية بالنجف الأشرف لتسويغ ترشحه للإنتخابات ومنهم من وضع نفسه على الخط مباشرة وتلفع براية الأمام أبو الفضل العباس الخضراء من دون أي خجل أو وجل.

العراقيون يبلغون من المستوى الفكري والوعي السياسي غير الذي يراهن عليه أولئك الدجالون من الإعلاميين الذين توفرت لهم الفرص المجانية لكي يطفوا على سطح السياسة والإعلام. العيوب التي يتمتعون بها كثيرة ويعرفها المواطن العراقي جيدا. التطور قادم للعراق الجديد، وكل جديد فيه لذة وفيه مفاجآت كثيرة عسى أن يتعظ منها المتهافتون على المناصب. العراق ليس لعبة بيد الصغار وليس لعبة بيد الكبار أيضا.. العراق كبير ومنتج للفكر والعلم والحضارة والسياسة.. ربما ينسى أو يتناسى البعض هذه الحقيقة البارزة، نقول ذلك للتذكير وللتذكير فقط، والشعب العراقي ينتظر ما سوف تسفر عنه نتائج الإنتخابات في الأيام المقبلة .

الثوابت والمتغيرات..

بعض التوقعات

تفرز أي عملية إنتخابية في أي بلد كان بعض المتغيرات الجوهرية على الساحة السياسية مثل فوز أحزاب وخسارة أحزاب أخرى، وبروز عناصر سياسية جديدة تطرح قضايا ورؤى جديدة مخالفة ومجددة لما هو سائد. تلك هي الميزة الحيوية للنظام السياسي الديموقراطي. وفي الوقت ذاته تبقى الركائز الثابتة للنظام الديموقراطي، وغالباً ما تكون عبارة عن قوانين دستورية بالأصل، تبقى من دون تغيير لأنها السلّم الذي يرتقيه جميع المتنافسين من الأحزاب والكتل السياسية للوصول إلى سدة الحكم. على صعيد المتغيرات في الإنتخابات البرلمانية العراقية فقد شهدنا ظهور تيارات جديدة بحيوية وحلة جديدة تمثلت بالتيار المدني الديموقراطي، وأيضا بالزخم الذي مثلته حركة المرأة العراقية سواء أكان ذلك على صعيد الترشيح أو ممارسة التصويت، وهذا تطور نوعي يصب في مصلحة المجتمع العراقي بشكل عام. وعلى صعيد إقليم كردستان شهدنا تبلور حركة «كوران ـ التغيير» وتعاظم حجمها بحيث شكلت أبرز التيارات القوية التي تنافس بجدية الحزبين التقليديين الديموقراطي الكردستاني بزعامة السيد مسعود البارزاني، والإتحاد الوطني الكردستاني بزعامة السيد رئيس الجمهورية العراقية جلال الطالباني. هذه الظاهرة الحيوية في إقليم كردستان تؤكد جلياً الرغبة الحقيقية للشعب الكردي المصر على التغيير الجوهري والخروج من هيمنة الحزبين التقليديين على مجريات العمل السياسي في الإقليم.

على صعيد المركز شكلت المبادرة السياسية التي أطلقها رئيس الوزراء الذي هو ذاته رئيس كتلة ائتلاف دولة القانون نوري المالكي تغييراً جوهرياً على صعيد الشكل السياسي الذي ربما نراه في العراق بعد ظهور النتائج الإنتخابية الأخيرة. تلك المبادرة التي تسعى لتغيير الوضع السياسي القائم في العراق من المحاصصة الطائفية إلى مبدأ الأغلبية السياسية. هذا بحد ذاته ما يجب أن يكون عليه الأمر بالواقع الجديد، وهو هدف جوهري يصبو إلى تحقيقه غالبية الشعب العراقي بعد أن فتّ عضدهم نظام المحاصصة الطائفية المقيت وما جلبه من مساوئ وفساد طيلة السنوات العشر المنصرمة.

* من أسرة «الصباح الجديد»

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة