التجنيد العسكري في سوريا: كابوس الرجولة المؤجّل

ورد بيك *

الدخول إلى شُعب التجنيد في سوريا لا يختلف عن دخول المهاجع والسجون، أكوام من السجلات الخضراء والأوراق و”الأضابير”، تختزل مئات الأجيال من الرجال والشباب والأطفال داخل هذه المصنّفات. فمنذ ولادتهم ذكوراً، يُمنحون اسماً في هذه الشعبة، التي تُراقب أعمارهم بشكل دقيق، كما يتربص المفترسون بضحاياهم، بانتظار أن يبلغ الشاب التاسعة عشرة، ويلتقي المُفترس/ المؤسسة العسكريّة للمرة الأولى، للحصول على “دفتر خدمة العلم”.

أوديسة الحصول على تأجيل دراسي
15 آذار/ مارس هو موعد انتهاء تأجيل الطلاب الجامعيين الخدمة الإلزامية، وهو اليوم الذي بدأت فيه الثورة السورية عام 2011، هكذا أصبح هذا التاريخ نقطة فاصلة في الذاكرة بين بداية الحرب وانتهاء حرية الشباب.
يسمح التأجيل بتأخير الالتحاق بجيش النظام السوري حتى يُكمِل الطالب تعلميه ويحصل على شهادة جامعية، آلاف الشباب السوريون اليوم عالقون في السنة الدراسية الأخيرة، يوقفون تخرّجهم عمداً، فيرسبون في إحدى المواد الدراسية، كيلا يُؤخذوا إلى الجيش، نعم مادة دراسية هي الأمل الأخير لتأجيل جحيم النظام العسكري في سوريا، وهي الفرصة الأخيرة لبقائك حراً وحيّاً. لا يمكن اختصار خوف الطلاب خلال الفترة الدراسية التي تبلغ من 4 إلى 5 سنوات دراسية، يعيشون خلالها خوفاً وترقباً، وتهديداً لمستقبلهم، الذي قد تبتلعه الماكينة العسكريّة.
تشترط المؤسسات الرسمية السورية على الشباب حين يتجاوزون التاسعة عشرة، الحصول على ختم التأجيل الدراسي، الذي يتيح لهم التنقل داخل البلد من دون اعتراض ومشكلات على الحواجز المتنوعة، فبموجب الدستور السوري، تتراوح فترة الخدمة العسكرية بين 18 شهراً وعامين، بحسب الوضع الصحي للفرد. تُزاد عليها فترة التجنيد الاحتياطي التي قد تصل إلى ما يقارب الـ7 سنوات ونصف السنة. أمّا بعد تعديل المواد الخاصة بالاحتفاظ لعام 2023، فلا يحدد قانون خدمة العلم في سوريا مدة الخدمة الاحتياطية، وبذلك قد يبقى الشاب في الخدمة العسكرية إلى الأبد، ما يهدد مصير كثيرين ويبدد أحلامهم وشكل الحياة الذي يرغبون به.
تبدأ رحلة التأجيل الدراسي من الكلية التي يدرس فيها الطالب، الخطوة الأولى التي يجب فعلها هي الحصول على ورقة تثبت أنك طالب في إحدى الجامعات السورية، ولا تُعطى هذه الورقة إلا بعد أن يتم تسجيلك في سجلات الجامعة، التي غالباً ما تحتاج للوقوف في طوابير أمام موظفي الشؤون وكوة التسجيل، هناك يُعاد السيناريو ذاته للطوابير والصياح والوقت الذي يمرُّ بطيئاً، يجلس الموظفون أمام الحواسيب القديمة التي تعمل ببطء، ينتظرون الكهرباء أو الانترنت المقطوع معظم الوقت.
يمضي الشباب أياماً طويلة في محاولة إكمال أوراقهم الجامعيّة، سبب التأخير في الأساس غياب التنسيق بين الكلّيات وشُعب التجنيد، ما يجعل الطلاب في ورطة دائمة، يتنقلون بين المستشفيات والجامعات والمؤسسات بأوراقهم الخاصة كي يحصلوا على تأجيل مدته سنة فقط. وغالباً ما يحاصرهم الوقت بسبب هذا التأخر، خصوصاً أن ضاعت إحدى أوراقك بين زحمة السجلات في الجامعة.
أضاع صديقي الطالب في كلية الهندسة المدنية وصل الدفع في أحد المصارف، بعدما دفع قسط التعليم الموازي، والتعليم الموازي هو أقرب الأشكال إلى التعليم الحكومي المجاني، لكن يتوجب عليك دفع بعض الأقساط المالية بسبب علامات الباكالوريا، ما أرغمه على إعادة التسجيل من جديد للحصول على نسخة ثانية من الوصل، قبل يومين من انتهاء موعد التأجيل.

شعب التجنيد من الداخل
غالباً ما تتشابه المؤسسات السورية من الداخل، الجدران مدهونة بلونين رمادي من الأسفل وأبيض من الأعلى، تعلوها صور العائلة الحاكمة وشعارات الحزب. هذا الديكور الباهت أسلوب مكرر في المدارس والمستشفيات والسجون كإنذار للجميع بأن هذا المكان ملك للنظام.
كثيرة هي القصص التي يمكنك مشاهدتها هناك، منذ دخولك نحو الشعبة حتى خروجك، مثلاً، بعدما استطاع صديقي التسجيل في الجامعة، أخذ وثيقة الدوام وذهب نحو شعبة التجنيد في منطقته، كانت مزدحمة بالطلاب، طوابير طويلة يصطف فيها عشرات الشباب من أجيال متفاوتة يحملون أوراقاً ووثيقة تبرع بالدم وصوراً شخصية بثياب داكنة، من دون لحية أو شعر مصفف. عندما لمحه أحد الموظفين وأشار له من بعيد كي يقترب منه، همس في أذنه “رح ساعدك”. حسناً، أتى الفرج على شكل موظف حكومي، أخذ منه الأوراق وبدأ بالتسجيل، لم يفهم صديقي الغرّ بداية ما قد يفعل ذلك الموظف، عندها اقتربت موظفة منه كي تستكمل التسجيل، قاطعها الموظف وطلب منها معتذراً أن يكمل بنفسه كي لا تختلط الأوراق. انسحبت الموظفة للخلف وهي تنظر نحو صديقي، وكأنها فهمت ما يحصل. وقبل أن يعطي الموظف الأوراق المكتملة لصديقي قال له: “شو بدك تحلينا؟” أجابه ممازحاً “الي بدك”، “وشو بدك تحلينا” هي دلالة على طلب مقابل للخدمة، وقف صديقي مصدوماً متسائلاً هل يعقل أن يطلب “رشوة” بهذا الوضوح أمام الجميع دون أن يخشى شيئاً!، أم أنه يحاول إيقاعي بقضية رشوة متعمّدة؟
أخرج الشاب مبلغ 4000 ليرة سورية أي ما يقارب النصف دولاراً ووضعتها في يد الموظف بمصافحة سريعة ليأخذ الرشوة بعيداً عن أعين الموظفين وكاميرات المراقبة وصور القائد المعلقة على الحائط. لكن أليس من المفترض أن يعرض صديقي الرشوة؟ وهكذا ندرك أنهم يفرضون الواسطة علينا من دون طلبها، نتلوث بها مجبرين دون أن ننتبه، لكن ماذا كان سيحصل لو أن صديقي لم يكن يحمل نقوداً؟ تبقى رشوة النصف دولار أسهل من دفع بدل الخدمة العسكرية الذي يبلغ 8000 دولار أميركي.
مهما كنتَ صلباً وقاسياً وشجاعاً، ستشعر بالخوف بمجرد دخولك إلى هذا المكان، كأنهم يجبرونك على أن تكون قاتلاً أو مقتولاً، إنه المكان الذي ستبصم فيه بإبهامك على ورقة لتأخير موتك بضعة أشهر.

الحواجز التي تنتظرنا
ترتبط ذاكرة الخوف السوري بالحواجز العسكريّة، ازداد هذا الارتباط خلال الحرب، إذ يحاول “الجميع” تجاوزها أو الابتعاد منها قدر الإمكان حتى إن أُجبِر على السير لمسافات أطول، لكن بعض الحواجز تحتل نقاطاً رئيسية عند مداخل المحافظات والمدن وطرق السفر الرئيسية، التي يعبرها معظم الشباب خلال سفرهم إلى جامعاتهم، والتي يتعرضون حين عبورها (للتفييش) أكثر من مرة للتأكد من وجود تأجيل دراسي يمنحهم الإذن بعدم الالتحاق بالخدمة العسكرية، يبحث “العساكر” عن أي حجة تمكنهم من إنزال الشباب لإخافتهم وتفتيش أغراضهم الشخصية من دون وجود إذن رسمي.
يقول مجد (اسم مستعار) وهو طالب جامعي يبلغ من العمر 22 سنة: “خلال سفري من حمص نحو دمشق التي أدرس فيها، دوماً ما أتعرض للتفتيش والمساءلة: ما اسمك؟ عمرك؟ شو عم تدرس؟ وين تأجيلك؟ فتاح شنتايتك.. حقيبتي فيها لابتوب جامعي مستعمل استعرته من احدى الجمعيات لاكمال دراستي، وبعض الثياب الخاصة بي.. وضع العسكري يده في حقيبتي، وهو ينظر في عيني دون خشية، عبث بترتيبها ترتيبها متقصدا ازعاجي، لكني أعلم أنه يحاول فعل ذلك عمداً كي استنكر وينزلني كرد فعل على مجابهتي له أثناء عمله”. يكمل مجد: “أخد العسكري محفظة نقودي التي أضع فيها مبلغ تسجيل الجامعة وإيجار البيت الذي أعيش فيه، لأني لم أستطع الحصول على غرفة في السكن الجامعي العام، ومصروفي الشخصي، المبلغ كان عادياً جداً مقارنة بالغلاء، لكنه كبير بالنسبة إليه، رفع رزمة النقود أمام العلن وقال بصوت عال، منين هدول المصاري؟”.
إنها بعض القصص التي تروى عن الداخل السوري، الذي يعيش فيه النظام وحده فوق الجميع، حيث النجاة مقترنة بالحظ وبورقة صغيرة تحمل إشعار تأجيل سنوي، ورقة تقول أريد إكمال دراستي، لا أريد الموت الآن. آلاف الشباب الذين فقدوا هذه الورقة أمسكتهم الحواجز وأخذتهم نحو مكان بعيد، مكان لا طعام فيه ولا أمان ولا أحلام.
تجربة العيش داخل سوريا اليوم تشبه المشي في حقل الألغام، تسير مغمض العينين ولا تعلم ما هي الخطوة التي قد ينفجر إثرها اللغم، لكن المشكلة ليست بالأرض الملغومة، المشكلة بالقوّة التي تجبرك على العبور فوقها، برغم وجود معابر أخرى أكثر أماناً، فهل نستعيد كرامتنا الإنسانية بأن نسألهم ببساطة: هل تعتبروننا أعداء حقاً؟

*عن موقع درج
** كاتب سوري

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة