الحيرة..

نهاد عبد جودة

حياته محاصرة بالخيبات وأمنياته يغلفها اليأس , تلاشت منه المبادرات وعجز عن التحكم بأفكاره المنهارة , لقد ارتشف ثمالة عشق مجنون في مكان يمقت شيئاً اسمه الحب , ذَبُلت وسامته وتبخرت امنياته , كزهرة تتضوع بأريج عبقها تحت انظار خريف حقود , رغم قسوة الصبر لكنه كان طاغيا بالتحدي , لم يكن حبه نزوة , كان حباً صادقا في زمن شحت فيه بعض القيم وكثر فيه الزيف , الأبواب موصدة في وجهه حد التجهم بحكم بطالة هضمت حقوق الكثيرين , وطن ابتلى بالحروب والحصار والإرهاب , حشود الفقراء والمشردين تملأ الأرصفة , قيود الفقر جعلت مصير حبه على اجنحة الريح .
اكمل دراسته الجامعية وانضم الى حشود العاطلين , لم ينتمِ الى حزب سياسي يمد له يد العون , ولم يملك القدرة على دفع الرشوة , لذلك بقي يتأرجح في نفق مظلم ليس له نهاية , كانت حبيبته تواجه الاهل بحجة مقنعة وهي اكمال دراستها عسى وان تبتسم الحياة للحبيب الحائر ويحصل على وظيفة او اي فرصة للعمل , يوم بعد آخر يلف اليأس قيوده على رقبة هذا العاشق المسكين .
اكملت دراستها وسقطت كل الحجج وانكشفت الحقيقة القاسية امام الحبيبين , طال الانتظار اكثر مما ينبغي في حسابات الأهل , اصبحت تفقد مقومات الدفاع عن حبهما , حب يهدده الانقراض في ظل تقاليد مشددة لا تستجيب للرغبات ولا تتعاطف مع التوسلات ولا تعرف مصطلحاً اسمه الحب , ظروف قاسية القت به في عمق المتاهة يتخبط دون اهداف واضحة , ارهقه البحث عن مخرج لهذا المأزق , مخرجاً ينأى به عن الطرق الملتوية والمنحرفة لجمع المال بحكم اخلاقيات تجبل عليها , عرضت عليه الكثير من المغريات بأعمال تعارض القانون وتزج به في المعصية , لكن اخلاقه ابت ان ينحدر الى هذا المنعطف الخطير .
ما اقساها من لحظات وهو يوصف عجزه امام حبيبته التي تنتظره على صفيح ساخن , تحملت التوبيخ من الاهل بعد ان تذمروا من حججه ومماطلته , لقد هددوا بفسخ خطوبتها ان لم يتمكن من كسر الجمود .
قدحت اخيرا في رأسه فكرة حاول ابعادها مرارا ولكن دون جدوى , نفخت في رأسه بالون الامنيات في الزواج , آخر الحلول التي سيلجأ اليها بعد مخاض عسير مع الافكار , قرار بيع احدى كليتيه في احدى العيادات المتخصصة في هذا المجال في بغداد , تألق هذا الخيار حتى بدأت تنتعش الآمال في قلبه , سعادته في تحقيق هذا الحلم جعلته يتجاهل مساوئ هذه الفكرة , اصبحت الامور مهيأة للسفر محتفظاً بهذا السر لنفسه فقط , متجلدا على مخاوفه .
رضخ هناك الى اختبارات طبية دقيقة , بعد ثلاثة ايام عاد الى مدينته يرافقه صمت كئيب , هذا الصمت المدمر يخفي سرا اكبر مما تستوعبه مساحات الصبر , حاصره الاهل بزخم الاسئلة دون اجابات , كان الجميع يتلهف لمعرفة اسباب الرحلة وهذه العودة المنكسرة , جاءت توسلات حبيبته اخيرا كحافز للخروج من دائرة الانطواء والعزلة .
تحت انظار الجميع فتح حقيبة صغيرة بصمت حزين وسكينة مؤثرة , بعثر ما في داخلها من اوراق , قفز امام انظار الجميع تقرير طبي , اطلع عليه الجميع حتى ساد بينهم الصمت والحيرة , يفيد التقرير انه غير مؤهل للتبرع بالكلية لكونه مولوداً اصلا بكلية واحدة .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة