محمد مشعل القريشي
عن دار ليندا في سوريا، صدرت رواية( بهار) للروائي( عامر حميو) وهي رواية جرت احداثها في شمال العراق، عند دخول داعش الى الموصل.
العتبة الأولى هي العنوان الذي يدفع القارئ إلى تخيل المصاديق الخارجية له فيجد نفسه أول الأمر متخيلا التوابل( البهارات) التي تكونت حروفها بنفس حروف العنوان، ولكنه سيدرك بعد برهة أنها بعيدة كل البعد عن هذا الموضوع.
سيما وجود (الهاء المشددة) التي تدل على موضوع أخر يفصح عنه الكاتب أول الطريق ليصبح معلوما لدى القارئ: ان هذا العنوان عائد لاسم علم انثوي.
العتبة الثانية هي الغلاف الذي يبرز شيئا من الحكاية وهو عبارة عن لوحة فنية تمثل مجموعة أجساد مرتمية على أرض متشققة هي نصف الوجه الأنثوي الذي ينضح نصفه الأخر بالحزن والزينة على حد سواء، وفيه تعبير عن الضياع والحيرة وقد طوقها السواد في الخلفية من كل جانب.
حين ندخل في أتون السرد وما خفي تحت محاريث الكلام لنتحدث عن تجربة واقعية تؤرخ لزمن الموت في بلاد السلام فإن كل الكلام لن يكون معبرا عن تلك المآسي التي رسم لنا المؤلف بعضا منها، ومع ذلك فقد داخلنا الألم والحزن بقدر ما صوره لنا، فكيف كان وقعها على من عانى ويلاتها وكوته نارها؟!
كلامنا هنا ليس بالضرورة أن يكون معبرا عن موضوع الرواية أو معترضا لتحليل بنائها الذاتي ولا يهدف إلى ذلك، بل هو استعراض واشتغال وصفي لغوي مرتبط نوعا ما في بناء السرد الإنشائي الذي شكل بمجموع ألفاظه بنية الرواية التي بين أيدينا.
في البداية التي تمثل الربع الأول للرواية نلاحظ أن هناك انطلاقة سردية سريعة أو قل متعجلة ربما قصدها الكاتب للإحاطة بكامل المشهد وإبعاد شبح الملل عن القارئ وهو يحاول لملمة أطراف الصراع أول الأمر وتجنب الوقوع في التفاصيل الزائدة التي لا تؤدي غالبا إلا لزيادة حجم الرواية مؤثرة بذلك على موضوعها وحبكتها الدرامية.
توغل السارد في عوالم مختلفة بين الظاهر الجلي، والعميق الخفي وبين ما هو سيكولوجي نفسي، وأيديولوجي منهجي يرصف الأحداث ثم يجعلها تتناثر هكذا بلا عناية، فتشعر أنها تسير على حالها مرسلة على غير هدى، وكأنَّ الكاتب أراد بذلك أن يجعلنا جزءًا من النص نتشارك في رسم الصورة المتخيلة عن تلك الحوادث التي توزعت هي الأخرى بشكل عشوائي وكأنها تمثل ذلك اللاوعي الاجتماعي الذي انتهجه القادمون من مدن الظلام والضلال، والحاضنين لهم.
تميزت الرواية بانتهاج تقنية تعدد الرواة، واختفاء السارد الحقيقي، لكنه لم يكن اختفاءً كاملا يمكن أن تجد أثاره واضحة برغم تواريه في جلباب الساردين، يمكننا أيضا وصف الرواية بانها من الروايات الميتا سردية أي ما بعد السرد التي تستثمر الوثائق والاعترافات والمذكرات فيكون وجود السارد صريحا في نصه لا خارجا عنه كما في السرد التقليدي، ويمكن للمتبع معرفة دور السارد وهو يقوم بوظيفة الإدارة من خلال الخطاب النسائي ليروي لنا أحداثا وقعت في أماكن متفرقة وصفها لنا كمن سكنها وتجول في طرقاتها.
اعتمد بناء الشخصيات على وجود علاقات مختلفة بين الشخصيات يوجب اشتراكهم في حيثيات الحدث فمثلا (سكمان) البطل الذي ساهم بعملية الإنقاذ، كان له أكثر من علاقة مع (بهار) الشخصية الرئيسية في الرواية؛ علاقات دينية، تأريخية، علاقة حب، وانتقام، وبناء المستقبل. كلها مشتركات جعلت النص ينطلق إلى خارج الحدود التي رسمها الكاتب لأبطاله بل تعدته إلى القارئ الذي كان يتفاعل مع شخصيات الرواية بحجم تلك العلاقات فمنها الإنساني الذي يشترك فيه الجميع ومنها القومي، والديني، وكذلك السياسي.
وكذلك كانت هناك علائق أخر مثل العلاقة الوظيفية والاجتماعية تلك التي نبعت في السجن بين السجينات، وقد بين لنا الراوي بعضا من سمات المجتمع وطبقاته الاجتماعية، وفي المستشفى أيضا رسم لنا شكل المجتمع الواقعي بدون رتوش.
كان الحديث للسبايا أبطال الرواية من زاوية واحدة ومشهد مبسط لا يحتمل التركيب وهذه الميزة تجعل القارئ يستشعر الحدث وكأنه معني به فيضع نفسه مكان الأبطال ويحمد الله عند كل فاصلة أنه لم يكن هناك.
وصفت الرواية مشاهد جرائم الاغتصاب التي لم تكن كما يفترض أن تكون فالمباشرة حولتها من حالتها الإجرامية إلى مشاهد جنس ملتقطة من مخيلة الكاتب بما تراكم في ذهنه عن هذا الموضوع فاستغاث بما لديه من حكايات واعتصرها ليصور لنا تلك المشاهد على لسان أبطاله كما كانت تحدث.
سمحت الرواية بضم أجناس متعددة ولم تغفل دور الجاني بل رسمته بكل حيادية دون تكلف فكانت كما لو أنها كُتبت بيده وعن نفسه.
الرواية متماسكة تقود القارئ معها إلى نهاية متوقعة فكل القرائن الناضحة في سطورها تصل بالأحداث إلى الخروج من عنق الزجاجة، وحسنا فعل كاتبها ذلك فبعد تلك الأحداث المروعة تمكن ببراعة أن يرسم ابتسامة سرور في النهاية التي تميزت بالشد العاطفي المكثف في صفحاتها الأخيرة حتى يشعر القارئ هناك برغبة عارمة للبكاء فرحا.