د. ثائر العذاري
اعتادت كتب تاريخ الأدب العربي على ترديد مقولات لم أقف على أول من أفتى بها، من غير التوقف عندها وفحصها من جديد على الرغم من خطورتها. من مثل دور نابليون الذي جعلوه سببا في النهضة العربية في القرن التاسع عشر.
ومن تلك المقولات الشطب على ستة قرون من الأدب العربي بجملة واحدة، القرون التي أعقبت سقوط بغداد على يد المغول عام 11258م، وتسميتها أسماء توحي بالدونية والمنقصة، فهي فترة مظلمة أو راكدة أو جامدة أو فترة عقم وتقليد واجترار.
وبقليل من التأمل نكتشف خلل هذا الحكم، فقد كان سقوط بغداد هزة اجتماعية وسياسية كبرى، زيادة على كونها هزيمة عسكرية فاجعة، وتعلمنا دراسة التاريخ، أن مثل هذه الهزات لا يمكن إلا أن تولد فنونا وآدابا جديدة، صحيح إن القمع الذي مارسه الغزاة والمحتلون في تلك القرون أدى إلى توقف الحركة الفكرية تقريبا، فالفكر عمل إرادي يحتاج بيئة تحتضنه، أما الفنون والآداب فهي أنشطة إبداعية لا يمكننا تصور أزمنة خلو منها.
وبمراجعة حركة التأليف في تلك القرون نكتشف أنها انصبت على موضوعات لا تنطوي على مخاطر غضب السلاطين، فصبوا اهتمامهم على المعاجم والتفاسير وكتابة الحواشي وشرح الملخصات وتلخيص الشروح وكتب الاختيارات، ويمكن القول أن النقد قد غاب تماما طوال تلك القرون فلم يعنوا إلا بفنون البلاغة والبديع منها خاصة، إنها فترة مظلمة حقا للنقد الذي توقف عند الجرجاني.
أما الأدب والشعر خاصة فمن الظلم أن يوصف بالركود والجمود، ففي العراق مثلا كانت هناك مدن تتنفس شعرا حتى اعتادت تنظيم المجالس الأدبية حتى صارت مراكز ثقافية ومنها الحلة والنجف الأشرف والموصل. وأنجبت الكثير من الشعراء الكبار من أمثال صفي الدين الحلي وعبد الباقي العمري والسيد حيدر الحلي وكثير غيرهم.
وقد ظهرت ظواهر إبداعية مهمة عدها النقد التقليدي عقما وضعفا، بينما هي تحتاج دراسة معمقة للوقوف على دلالاتها الثقافية. فقد حدثت انتقالة كبرى من الاهتمام بالتشبيهات والاستعارات إلى الاهتمام بالشكل البصري للقصيدة.
في تلك القرون تخلص الشعراء من رقابة النقد التقليدي الصارمة الذي كان يفرض عليهم الالتزام بمعايير القدماء، اتجهوا إلى الجمهور، يبدعون ما يبهره وينتزع منه الإعجاب، وهكذا انقرض أدب النخبة وظهر بقوة أدب شعبي يستهدف عامة الناس.
إن فنونا مثل الكان كان والدوبيت والتخميس والتشطير غيرت مفهوم الشعر تغييرا جذريا، فهي تنشد توليد الدهشة من كسر أفق توقع الجمهور في نص يتسم بالقصر، وتخلى الشاعر عن الاعتماد الكلي على التشبيه وما يتفرع منه.
ولعل اللافت في هذه المدة اهتمام الشعراء بالشكل البصري للشعر المكتوب وتجدر الإشارة هنا إلى فنين شعريين يدلان على مهارة إبداعية كبيرة، أولهما ما كان يسمونه فن التأريخ وهو قطعة من بضعة أبيات تزين بها أبواب القصور والمساجد يبنى البيت الأخير منها بناء حسابيا معقدا، إذ يعتمدون على ما يعرف بحساب الجُمّل الذي يعطي لكل حرف أبجدي قيمة عددية، وعند جمع أقيام الحروف المكونة لكلمات البيت الأخير التي تأتي بعد كلمة فيه مشتقة من الجذر (أرخ) يكون ناتج الجمع العام الذي شيد فيه المبنى المؤرخ، ثم راحوا يؤرخون به الحوادث الكبرى وأدخلوه حتى في قصائد المديح، وعلى الرغم من صعوبة توليد السنة في تتمة توافق الوزن والقافية فقد كانوا يكتبونها بحيث لا تبدو فضلة أو حشوا كما فعل ابن المبلط مؤرخا جلوس السلطان سليم الثاني:
ودولة ملكٍ قلت فيها مؤرِّخاً سليمٌ تولّى الملكَ بعد سُليمان
فعند جمع أقيام الحروف بعد كلمة مؤرخا يكون الحاصل 974 وهو العام الهجري الذي تولى فيه السلطان.
أما الفن الثاني فهو القصيدة المشجرة، وفكرتها بصرية صرف، إذ يقوم الشاعر بكتابة بيت بشكل طولي ثم ينظم أبياتا تتفرع من كل كلمة فيه، وقد تتعقد ويتطور كل فرع بالطريقة نفسها.
وبقي أن نشير إلى فن عرفه المؤرخون باسم البند وهو نص يتوسط بين الشعر والنثر، فكاتب البند يكتب قطعة أدبية موزونة على تفعيلة واحدة يغلب أن تكون الرمل أو الكامل ولكنها تستمر بتدفق يشبه ما نسميه اليوم القصيدة المدورة التي اشتهر بها حسب الشيخ جعفر، كما في بنود السيد معتوق الموسوي التي جاء في بعضها:
ايها الراقد في الظلمة نبه طرف الفكرة ، من رقدة ذي الغفلة ، وانظر اثر القدرة، واجل غسق الحيرة ، في فجر سنا الخبرة .
وارى الفلك الاطلس والعرش ، وما فيه من النقش ، وهذا الافق الادكن ، في ذا الصنع المتقن ، والسبع السماوات ، ففي ذلك آيات هدى تكشف عن صحة اثبات.
وهكذا تتقدم القطعة على تفعيلة الرمل فاعلاتن.
وخلاصة القول إننا بسبب جمود النقد غضضنا الطرف عن ستة قرون من الشعر فيها الكثير مما يحتاج إعادة النظر فيه ودراسته.