رشا عمران
في حوار أجريته قبل زمن طويل مع الشاعر اللبناني بول شاوول، ونشر في مجلة «نزوى» العمانية، شرح شاوول كيف أنه يعيش مع آلاف الكتب، وكتابها يجنبونه إحساس الشعور بالوحدة. أتذكر أنني قلت له: «لكن معظم كتابها ميتون.. أنت تعيش مع موتى»، فرفض الفكرة معتبرًا أن «الكاتب يعيش إلى الأبد عبر كتابته، يبقى حيًا طالما هناك من يقرأه، يموت الكاتب حين تُنسى كتاباته، حين لا يتذكرها أحد». وفي الحقيقة فإن فكرة خلود الكاتب عبر نصه هي فكرة أزلية، هي الفكرة التي بنيت عليها معظم الأساطير المدونة، وملحمة جلجامش، بشكل خاص، كتبت من أجل الخلود، لا خلود جلجامش الباحث عن عشبة الحياة، بل خلود السومريين، واضعي تلك الملحمة؛ الرسم والكتابات على جدران معابد ومقابر المصريين القدماء أيضًا، الأهرامات بحد ذاتها، المومياءات، كل حضارات التاريخ البشري قامت من أجل هدف واحد هو البحث عن الخلود، حتى الأديان السماوية التي تروج لحياة ما بعد الموت في الجنة أو في أحضان الرب، كل الديانات الأخرى أيضًا، العلم نفسه والتقدم التكنولوجي، ثمة سؤال واحد ووحيد خلفه هو سؤال الموت وفهم سره، ثم الانطلاق في الرحلة الجلجامشية بحثًا عن الخلود، الحلم الأبدي للبشرية.
(هزمتك يا موت الفنون جميعها)، يقول محمود درويش في جداريته الخالدة التي كتبها على سرير المرض، ذلك المرض الذي أودى به بعد مدة قصيرة من كتابة الجدارية، ودرويش مثله مثل ملايين الكتاب والمبدعين من البشر، يعتقدون أن الموت سوف يقف عاجزًا أمام الإبداع، وهم حتمًا ليسوا مخطئين، فالإبداع خالد، الفنون كلها خالدة، حتى لو أصبحت دوارس، سيبقى منها ما يستمر إلى الأبد، ستبقى سِيرُها، الحكايات حولها. من أتيح له أن يزور قبور المصريين القدماء في مدينة الأقصر، ويرى الألوان المثبتة على الجدران منذ آلاف السنين كما لو أن من لونها قد انتهى منها للتو، سوف يبدو له كما لو أن هذه المقابر تقهقه ساخرة من الموت، ومن زار البتراء وبعلبك وبابل وتدمر، من يحفظ قصائد الجاهليين ومن تلاهم، من يستمتع بالموسيقى الكلاسيكية العظيمة، من يتسلطن مع أم كلثوم، من تمتع عقله شاشة السينما أو خشبة المسرح أو متاحف الفنون، من يرى في الرقص سحرًا لا يضاهى، هذا التراكم المبدع عبر التاريخ البشري وقف في وجه الموت طويلًا وسخر طويلًا من صناع الموت، كلنا يعرف هذا، مثلما نعرف أن ذلك يحدث عبر إدراكنا له فقط، وجوده كله مرتبط بإدراكنا أنه موجود، ندركه ونحن نراه أو نلمسه أو نشعره، ندركه ونحن نعيه، ندركه في عقولنا وحواسنا، ندركه كما إدراكنا أننا أحياء، نتنفس ونعيش ونشعر، بيد أن الإدراك سوف يتوقف عن العمل في لحظة ما، في اللحظة التي يختفي فيها كل شيء، حين لا يوجد غير الفراغ والعدم والسديم، في تلك اللحظة سوف ينتصر الموت، وسوف يقهقه ساخرًا من كل مقولات المبدعين، ومن كل طرق البشرية في البحث عن الخلود.
نهاية العالم تحدث في كل لحظة، كلما مات كائن حي انتهى العالم بتاريخه وحاضره ومستقبله، ذلك أن العالم ليس سوى «إدراكنا له» أو وعينا بحدوثه، هل تسأل الكائنات الحية الأخرى التي تعيش معنا على الكرة الأرضية سؤال الموت؟ هل يشغلها شأن الخلود كما يشغلنا؟ تدافع الكائنات الأخرى عن حياتها ووجودها عبر استخدام غرائزها، هل تلك الغرائز تصنع لها وعيًا بما هي عليها دورة حياتها أم أن الوعي مرتبط بالذاكرة فقط؟ الذاكرة الإنسانية منذ تطور البشرية وهي تخزن كل ثانية سيرة من سير الموت ومع ذلك ترفض التصديق أن لا شيء يمكنه أن يقف أمامه، حتى جبروت العلم، أقله حتى اللحظة، ربما سيرتفع متوسط عمر البشر في المستقبل القادم، وربما سيرتفع كثيرًا، غير أن ذلك لن يغيّر من حقيقة أن العالم سينتهي بالنسبة لكل كائن حي في لحظة ما.
نهاية العالم تحدث كل لحظة، ولولا هذه النهاية لما استطعنا رؤية الجمال، لما عرفنا مفهوم المتعة، لما تطور العلم ولا حدثت قفزات ثورية به، لولا تلك النهاية لساد الحياد الحياة، الحياد والملل والاعتياد، لأصبحت الحياة جافة، تراوح في منتصف كل الأشياء: (أنا عارف أعمالك، أنك لست باردًا ولا حارًا، ليتك كنت باردًا أو حارًا، هكذا لأنك فاتر/ سفر الرؤيا)، الفقد هو سبب حرارة الأشياء، أو حرارة مشاعرنا نحوها، أنها ستزول بعد حين، ستختفي، أو سنختفي نحن، لولا الفقد لما لمعت نجمة، لساد البهوت كل شيء، لولا الفقد لما كان الإبداع، لولا الموت، الإبداع والفنون هي في البحث عن سؤال الموت، العلم أيضًا.
لكن ما معنى كل هذا حين يختفي المبدع والعالم وما معنى خلود أعماله بينما وجوده المادي استوى مع العدم؟ هل ذاكرة الآخرين الأحياء عنه تجعله خالدًا أو حيًا لزمن طويل؟ هل البشر يعيدون خلق الأموات في كل لحظة؟ أقصد ذاكرة البشر.. ماذا بشأن عالم المخلوقات الأخرى، تلك التي لم تتطور ذاكرتها بعد؟ لم يستطع العلم حتى الآن فهم عالمها الداخلي، حتى المستأنسة منها، ما زال أمام العلم قفزات نوعية أخرى لفهم خفايا هذا الكون العجيب. ولأننا لن نكون هنا يومها ربما سيكون جميلًا أن نعيد ما قاله درويش (هزمتك يا موت الفنون جميعها)، أو نعيد إحياء من سبقونا من الكتاب حين نقرأهم مجددًا، ونعيش معهم كما لو أنهم شركاؤنا في بيوتنا على طريقة بول شاوول.
سألت صديقة مبدعة عن الأثر، ما هو؟ أتتها إجابات مختلفة: «الكلمة، الفن، السيرة، الذرية، الملكية، إلخ». كان سؤال صديقتي عن الخلود، ذاك أن نقاشًا بيننا حصل ذات يوم في نفس المعنى، وكانت الإجابات التي تلقتها كلها في محاولات الانطلاق في رحلة جلجامش التي لن تتوقف أبدًا.