تمظهرات الترميز الصوفي في قصيدة (مكابدات الحافي)

    عدنان أبو أندلس

    عند الإمعان جلياً في رؤى الشاعر ” عبد الأمير خليل مراد ”  عبر مجموعتهِ الشعرية الجديدة  ” مكابدات الحافي ”  وقصيدته التي تحمل الاسم ذاتهِ كـ ثريا النص ، هذه القصيدة تفضي بنا الى أغوارٍ بعيدة  من التعسف الماضوي والظلم الذي سرى يوماً ..الى أدىً وبعمق المشاعر والاحباط الذي يبدو للمتلقي من خلال العنونة ، أي ” النصية الخارجية ” للمجموعة ذاتها .فالعتبة هي المفتاح الذي يلج منهُ الى المتن ، فالعتبات : ” ماهي إلا اشارات دالة ترشد المتلقي الى متن النص ، وتساعده في استكشاف ما ينطوي عليهِ من معانٍ ، ودلالات غائبة أو مغيبة ” (1)  كالمضمر في النقد . 

  هي أي”  القصيدة ” التي نحن بصددها هي  الحافلة بالحس العرفاني ، حيث يتضح للمتلقي بأنها قد اتخذت الرمز كـ قناع يحميهِ من سطوة الآخر المتربص في كل مفردة يتفوه بها ، فالرمز قد يتضح للآخر من توظيفهِ القصدي  كي يستله من نوائب الدهر :” أراها أثقل كلمة عربية تفيد المعنى الإغريقي للكلمة التي تعني حرفياً ” القول خلافاً ” (2)أو :” قول الشيء الآخر ” (3) و : ” الترميز من المجاز الذي يقوم وتوسيع الاستعارة حتى تخرج من حدود الجملة فتصبح حكاية أو تطول ” (4) هو بالأساس على فضاءات من التشخيص  فالرمز هو:”  انزياح دلالي للتمويه ، وانتقال المعني واختزال شخصيتهِ برمز اسطوري على أقل تقدير. وترميز الزمن عبر تقطيع لمفردة معنية ، فالأول حاضر حسياً ، والثاني غائب تسعى الدلالة لبلوغهِ،  فينوب الأول عن الثاني  ، ويصبح بديلاً عنهُ ” ،  والتعريف بالشخص مع  اقتناص وصيدٌ ثمين للرقيب الذي يبغي تحقيق رغبة ملحة من السطو الحياتي . لهذا كانت مسارب ما كتبهُ كـ نصيةٌ لهُ من تفريغ هذه المرارات أو التي  أطلق عليها في عنونتهِ بـ (مكابدات الحافي ) عبر مجموعتهِ الشعرية المنوه عنها  ، فالعنونة لابد من مواكبة المتن النصي وتغطية هيكل وجسد المجموعة وكما قال : ” بل يجب أن يكون بين النص وعنوانه علاقة تناغم وانسجام في اطار دلالي كبير ، يستقطب السياقات النصية كلها ” (5) أي يغطي المتن النصي برمتهِ ” جسد النص . في ما تقدم يمكننا الآن الولوج الذي يـأخذنا بنا الى مواجع الألم الصارخ لروح معذبة حياتياً بسبب فكر وعقيدة راسخة عُمقاً ، هذه التوجعات التي بثها في مفاصل مقاطعه السبع والتي استهل بها صراحة ” أنا بشر الحافي ” هذا  صوت ” الأنا ” على ما يبدو لي من خلال قراءتي لرؤى النص هو الشاعر المُبرقع باسم ” الحافي “ الذي اتخذ من الشخصية رمزاً مواكباً لحالته التي قد مر بها يوماً ما ، فنائ بُعيداً عن عين الرقيب الذي يبث أو يزرع نظراته في كل ركن .

     يمكننا أن نلمس في العتبة القرائية التي أفصحت عن معناها في ذلك التأويل الذي يشي الى المعاناة المبثوثة في متن القصيدة بمقاطعها التسع ، كذلك حروفها التسع ،  ماهي الا بث هذا الكامن في الشعور وخفايا مُحرقة ومريحة في الوقت نفسه . لذا جاء بترميزه الموارب بتجليهِ مثل غطاء شفيف يُبان منهُ ، لكنهُ قد يفضي الى البوح الجزئي رغم رمزيته العميقة التي أراد التخفي ، لكنها تجلت فكانت شكوى تتسربل في طيات النص ، أي كان مستهلها على مدار مقاطعه التسعة رمزاً  باذخاً في الاختيار ـ إلا أن الضربة الختامية للمقاطع هي التشبيه الموازي والمساوي معاً تلك المسرودات التي أفصح عنها في السردية التي لاحقتهُ حتى نهاية النفس الشعري ..وهكذا . مشفرات الطلاسم اللاحقة قد بانت من خلال السرد اللاحق والتتابع …يلاحظ  ما معناهُ ،  فالمكابدات هي بالأساس جمع لمفردة مكابدة ، والمأخوذة تجذراَ من المصدر كابد …هي في اللغة المشاق والنصب ، المعاناة في سبيل تحمل من أجل هدف وغاية .. والحافي = عاري القدمين ، لو جمعنا ثنائية العنونة  المتعانقة روحياً ، والمتشابكة فكرياً ؛ نجدها ملائمة سوية بالمعنى والتشكيل   ، لأضحت ” معاناة حافي القدمين ”  ، وما يعتريهِ من أذىً مادي ملموس ومعنوي كامن في العمق النفسي ، يقترب من الألم الروحي المؤذي جسداً وروحاً ..هي تصبُ في وعاء الفقير ، المُعدم ، المعتوه ، ربما يصحُ القول للمجنون أيضاً ، وكذلك التائه ، الصعلوك ، والمجذوب الذي جذبهُ السحر الإلهي دون معرفة ما يحيط بهِ.

      كل ما مرَ هو تأويل العتبة القرائية التي غطت مساحة النصوص كلياً وفق عتبة الثريا في المتن النصي ؛ أيضاَ ، ومن ثم الجسد الكلي للمجموعة . ان اختيار العنونة لم يتم توظيفه اعتباطاً وهامشا متسرعا، لا بل عن دراية وتأن في مسارب ما يمتدُ زمنياً ،  لذا كانت الفقرات السبع توحي بذلك ، هنا نتفحص رقمياً ” المكابدات ”  بحروفها السبع ، والمتن النصي بفقراتهِ السبع أيضاً ، ربما هذا المرموز قد يوصلنا ويفضي بنا الى غاية في ذهنية الشاعر الذي أراد لها أن تكون ..يمكن أن يكون في خلجات روحيتهِ رقم الكمال الروحي لشخصية قناعهِ ” بشر ” مع العرض إن هذا الرقم مختص بالكمال الإلهي مع تكراره حياتيا في جميع الكتب السماوية والأرضية  والأساطير المنحوتة وفي حياتنا اليومية من الموروث ، حتى تطبعنا على قدسيتهِ بلهفة :

أَنَا بِشْرُ الحَافِي

فِي السُّوْقِ أَقُوْمُ وَأَقْعُدْ

وَدِثَارِيْ أَوْزَارٌ بَالِيَةٌ

ظَمْآنًا أَكْرَعُ مِنْ صَدَفِ البُشْرَى

لا مَالٌ فِي كَفِّي يَنْصُرُنِي

لا غُرَرٌ فِي رَأْسِي وَوَصَايَا

تَلْقُفُنِي مِنْ بِئْرِ ظُنُوْنِي

وَتُدَحْرِجُنِي كَمَسِيْحٍ فِي حَوْمَاتِ

قِطَافِ(6)

   يلاحظ بأن صوت الشاعر صارخ بقوة ” الأنا ” كما أسلفنا ، ويظهر في استهلال كل فقرة أو مقطع من القصيدة بصوتهِ ، ثم يتجلى مُعلناً مكابداتهِ المسرودة فيها ، وبعدها يختمها في النهاية بضربة توحي أو توازي الحدث ملاءمة مع ما يعتريه لحظتها ، أي كل فقرة = ثلاث أصوات وهي : بشر ” الأنا ” + المسرود + الخاتمة ، من الأوجاع ، إنهُ يتسربل برداء مخفي ومعلن معاً ، مخفي بسبعة عيون ، لما لهذا الرقم الرمزي من مدلولات قدسية نراها مواءمة مع ظاهرة الاخفاء التي اتخذها رمزاً مخفياً دون ذكره ، بل تقمص الشخصية كي يذود عن نفسه ، وراح في رقمه الجوهري الذي كان كونه مبنياً منهُ ، وحتى في تكوين الإنسان وحالات الحياة لدلالاته المدهشة والعجيبة في ماهيتهِ .   

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة