حياة باقية للاجيال في “مَزمور العودةِ”

يوسف عبود جويعد

في المجموعة الشعرية (مَزِمُور العَودةِ) للشاعر يوسف حسين، نتلمس بوادر المحتوى، والشكل الفني، والمضمون، ورؤية الشاعر الفنية، وأفكارها وثيمات كل نص شعري فيها، من خلال بنية العنونة، التي خصص لها عتبة نصية متصلة مع النصوص الشعرية، من خلال المستهل الأول، والمدخل الذي يفضي بنا الى واحة عالمه الشعري، مفسراً في ذلك ما يعني في اختياره لبنية العنونة، حيث يقول:

( الإهداء

(مزمور العودة) وثيقةٌ تاريخية في مظروف أدبي مُعنون إلى المؤرخ الرافديني القادم ليعرفّ كيفَ كُنا نحيا هذهِ المِحنة على هذهِ الأرض العظيمة خلالَ أربعين سنة مَضت مُدونةً على رَقيم واحد مِن أرواحنا الفَذة)

وهذا المدخل يتيح لنا الفرصة لمعرفة الرسالة المشفرة الذي أطلقها الشاعر، لمعرفة محتوى هذه المجموعة، إذ إنه يعلن وبشكل صريح، أن النصوص الشعرية التي ضمتها هذه المجموعة تجارب حياتية يومية استمرت لأربعين سنة، تنطلق من وجدان الشاعر الى كل الاتجاهات والجوانب الحياتية، الحب، الحرب، العلاقة العاطفية، الصداقة، الشعر، الاصدقاء الشعراء الراحلون منهم، والذين ما زالوا على قيد الحياة ومكانتهم في وجدان الشاعر، ودورهم الادبي، مثل الشاعر الراحل ابراهيم الخياط، وهي قصيدة مرثية تقدم صفاته ومحاسن اخلاقية، وتجربته الشعرية، والشاعر حسن النواب، والشاعر وسام هاشم، وغيرهم من الذين اثروا الساحة الادبية بمنجزاتهم الابداعية، بلغة شعرية حسية وجدانية، وانزياحية عالية، وفي بعض المواطن، يستخرج الشاعر لغة انزياحية فرعية من الانزياحية الاولى، لكي يستطيع ايصال الصورة الشعرية للقارئ، من خلال الاستعارات الصورية والدلالات والرموز، التي تحيلنا الى عالم الشعر لقصيدة النثر، وهي متدفقة خصبة حرة طليقة، ولا يعوقها أي عائق، ولا يعكر صفو انسيابيتها، وايقاعها المتزن أي شائبة.

وهكذا نكون مع رحلة شعرية فنية رائقة يتداعى فيها الشاعر، ليقدم لواعج فؤاده، وأساه وحزنه، لما آلت اليه الحياة، وتقلباتها وأثرها على نفسه، ليحيلها الى قصائد نثرية شعرية، تدخل روح القارئ وتأخذه معها الى هذا العالم.

وفي قصيدة (مَرمُوز العودةِ) نكون مع رؤى الشاعر الفنية، وأفكاره وتداعياته، ورحلة رحبة لوجه الحياة:

أيتها النُصب القصيةِ

أسميتكِ

أهلي الذينَ يموتونَ مُبكراً

…..

يكفي أنني الوحيدُ الذي أتقنُ أبجدية النشيدِ

والآخرونَ

يسعلونَ الرصاص

أمي

ابتاعتني للصيف وخمرتي تتلألأ

أسميتكِ

قميص الحروبِ وأوسمة الانتصارات

تلوكُ العائدينَ بأضراسِ من نحاس

وفي القصيدة الشعرية النثرية القصيرة (حَمامُ هُدبكِ) يقدم لنا الشاعر رؤية فنية شعرية عاطفية حالمة، بخيال خصب، وهو يصف لنا عندما يتزوج المحبوب محبوبته، ماذا ينجب؟

قالتْ….

وإذا تزوجَ المحبون ماذا ينجبون؟

قلت..

حماماً لعوباً يتفيأ هدبكِ

وتهمسُ أقراطكِ

مبللة بسنونواتِ البنفسج

وفي قصيدة (سيدة الوقت) يتذكر المحبوب حبيبته، وما يعني الوقت معها، ورحلة شعرية مع الشجر والعصافير، وشتلات تنبتُ الغزلان المتجهة الى عريها، ويطغي على البناء الفني لهذا النص، عالم من الرومانسية والعاطفة الجياشة:

شجرُ البلّوطِ الذي أودّعهُ على منحدرات الشمس

في النسيان الطويلِ

يعني عرقَكِ المتصبب بجموحك الفذِ

وبطء الدروبِ

يا سيدة الوقتِ الثمين

في المتاهات الأنيقة

وما تلقفته يدايَ منكِ

أصرخُ في إزارات السدنةِ

وما لفته الريح بعباءتها

أو ما توضأت بهِ من جفاف الملح على خلاياكِ

وهكذا تمضي هذه القصيدة الشعرية الى نقل ما يعنيه الوقت عند التقاء المحبوب لحبيبته. وفي قصيدة (أنهم أصدقائي الشعراء) ينقلنا الشاعر الى نخبة من اصدقائه الشعراء، والحروب، والتسكع في الطرقات، والمقاهي، ومجالس الشعراء وهو يذكر اسماؤهم:

يا كزار حنتوش وعقيل علي وعبد اللطيف الراشد وأحمد المظفر

أيها الشعراء الأحياء والأفذاذ

يا حسن النواب ونصيف الناصري وعمر السّراي وعمر مجبل هَرَبوا الوقتَ الضائعَ من العمرِ وأنسوه على موائد صديقي الجميل

صلاح زنكنة

الذي برع مؤخراً كيف يدسّهُ في عسل النساء المكتنزات

أو ما ينقشه بمحنةِ الحرفِ على تفاحهن المنفلتِ من الشوارعِ

الغبية جداً

وفي قصيدة (طوابير) يقدم لنا الشاعر رؤية فنية شعرية لمعنى الطوابير، الذين لا يملكون الارادة والاموات من الابرياء ضحايا الحروب والتظاهرات:

نحن الموتى

المصطفون بالملابس الخاكية ننبحُ بالنشيدِ العسكري لنتخلص من

تهمة معاداة

الجنرال

نحن الموتى

المصطفونَ في طوابير الصلاةِ ونسأله تعالى أن يرحمنا لأجل الجياع

المصطفينَ في الصف الأول

نحن الموتى

المصطفون في المراكزِ الانتخابية أبطال الثورةِ

البنفسجية لانتخابِ نوابنا/نهابنا/ سراقنا

نحن الموتى

المصطفون في طوابيرِ المراكز الصحية نشتري عمرنا من أطباء

يشهقون بنعناع

فلوسنا

وفي قصيدة (هذيان) نكون مع تركيبة فنية تنمّ عن جهد فني واضح، وهي اشبه باستغاثة من أب لابنه وهو يعظه وبنصحه ويرشده، ولكن برؤية فنية انزياحية تشير الى المعنى المضر داخلها:

لأني مشغولٌ جداً باستعادةِ روحي

ولأني حيوانٌ معهودٌ بالانقراض

مهمومٌ بمعرفةِ قياساتِ العواء بأوراق الديسبول

أخطئ بالعلف المتاح

أمسد رأس ابني الموظفِ على الملاك الدائمِ بعنوان (عاطل عن العمل)

أدلّهُ على أكذوبة زئير اللبوة حينَ ينتصف عندها الحنينُ

ليتعلمَ أنْ لا يغيب طويلاً بعد منتصف الشَبق

أرتبُ طفراتِ الأرانبِ وتسمين لياليها بورق الخروع

وأعلّمُ ابني أخطاءَ العجول الليلية الساهرة

في الصباح تأتي فيروز طواعية من مذياع الذئاب.

ثم نمر أيضاً على مجموعة كبيرة من الومضات الشعرية، لا تسمح الدراسة لتناولها، وكذلك نمر على قصيدة يرثي بها الشاعر رحيل صديقة الشاعر ابراهيم الخياط، والكثير من القصائد الشعرية التي ضمتها هذه المجموعة في كتاب عدد صفحاته ثلاثمائة وواحد وعشرون صفحة.

وهكذا وبعد اختيارنا لنماذج شعرية من المجموعة الشعرية (مَزمُور العودةِ) للشاعر يوسف حسين الذي كتب في وجه الغلاف وبعد العنوان (منذ الشهقة الأولى لغاية 2019 )، نكتشف المسار الفني الذي اتخذه الشاعر في صناعة قصيدته الشعرية النثرية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة