حبّ الوطن.. حب الإنسان.. ولادة المواطن
د. فتحي بن معمّر
الرواية فيها كمّ هائل من الأحداث المتداخلة وفيها سّرد يعتمد على مضمارين متوازيين يطّردان على مدى الرّواية حتّى يظنّ القارئ أن لا تلاقي بينهما. وهذان المضماران هما مضمار الحبّ الإنساني العاطفي بين بطليْ الرّواية «بدرية»و»نعيم»وبعض علاقات حبّ أخرى. ومضمار حبّ الوطن الذي يمثّله بدرجات متفاوتة كلّ من بدا في الرّواية منشغلا بقضايا الوطن عاملا على خلاصه وتحريره وضمان العيش الكريم لأهله. غير أنّ الجري في رواية الحال في المضمار الأوّل لا يمنع العدو والتّسابق في المضمار الثّاني ومن هنا ينشأ التّلاقي بين حب الوطن وحبّ الإنسان مواطنا حرّا مسؤولا وإنسانا بالأساس في وطنه العراق وفي غيره من البلدان.
1 – الحبّ … حبّ عتيق
ولا يكون الحبّ حبّا إلاّ متى كان عتيقا، متأصّلا تضرب جذوره في أعماق الرّوح، مضمّخا بأصدق الأحاسيس والمشاعر تنتشي بها النّفس فتزدهي. غير أنّه متى تمكّن من النّفس ولم تُصب منه إلاّ أوصاب العشق وآلامه،صار صاحبُه عبدا يطلب الانعتاق ولا عتق. كما اُستعبِد «نعيم» بعد أن جمع مهر حبيبته «بدرية» من التسوّل كما اشترطت. فكسرت أنف كبريائه كما انكسرت أحلام الوطن على صخرة الصّراعات والحبّ الذي لم يرقَ إلى أن يكون حبّا عتيقا. في الرّواية لعبة سرديّة أتقنها سعيد بقدرته العجيبة على جعل الأصوات المتعدّدة فيها تتداول على حبل السّرد فتروي حكاية الحب وحكاية الوطن. ومعه نفهم أن لا حياة دون حبّ ووطن.
وفي لرواية يمكن أن لا يكون الاسم دليلا على مسمّاه فـ»نعيم»ذاك الفتى ابن شيخ القبيلة المتعجرف تنكسر أنفه عندما يرضى أن يجمع مهر حبيبته «بدرية»من التسوّل فيسقط في مستنقعه ولا يخرج منه.وينتهي به الحبّ شريدا متسوّلا يغنّي كل ليلة مع خليلين. وعندما يخترق صوته الآفاق ويبلغ أذن «بدرية»يندلق دلو السّرد فتتعدّد الأصوات لنكتشف معها تفاصيل قصّة «نعيم»و»بدرية» ولنستكشف بطريقة سردية ممتعة حكاية العراق وبعض وجوه الصّراع في أدقّ مراحله التاريخية بحثا عن الحبّ والتّعايش والسّلم بقلم كاتب يحسن الإمساك بخيوط السّرد ويتقن تحريك شخوصها مستقيا من التّاريخ مشهديّة رائعة يمكن أن تعكس بعض عراق اليوم.
وللإمساك بخيوط هذا التّواشج بين التّاريخي والسّردي،بين قصّة التّحوّلات والصّراع في مرحلة ما من مراحل تاريخ العراق، وبين حكاية الحبّ بين «نعيم»ابن شيخ القبيلة و»بدرية» ابنة أحد شيوخ القبائل أيضا يمكن أن نركن إلى الفصل السادس عشر وهو تقريبا منتصف الرّواية بالضّبط ومنه نستشفّ العديد من النّقاط ومن خلاله تتوضّح لنا خيوط اللّعبة التّخييلية ومضاميرها السّردية وتوظيفها المقصود للجوانب التّاريخيّة بطريقة رمزية فيها عملية إسقاط مقصود على الرّاهن دون تسميته ولا الإشارة إليه،وذاك ما يُحسب لكاتب الرّواية الذي أحسب أنّه قصد أن يجمع كلّ هذه المؤشّرات في هذا الفصل الأوسط وكأنّه فصل بمثابة وتد يشدّ خيمة الرّواية ليدخلها القارئ أمنا، مطمئنا، راغبا، فيتمتّع بالقعود في ظلالها ويسرح بعيدا وهو يتسامر مع ساكنيها من الأبطال والفواعل ويردّد آيات السّعادة مع مختلف الأصوات التي تتردّد فيها. فإذا به فصل يفيض على الرّواية بما يلخّص من أحداثها وموضوعاتها من خلال الجلسة التي عقدها نعمان في المقهى للحديث عن الواقع السّياسي في البلاد وعن تجربته العاطفية فكانت الجلسة في المقهى كما الرّواية ذهابا وإيابا بين الذّاتي والتّاريخي، بين العامّ والخاصّ أو لنقل بين واقع وطن يتلوّن الحب فيه ويتأثّر بتغيّر أحواله وتطوّراتها. فكيف ذلك؟
2 – حديث الحبّ… جنون الحبّ
يُستهل الفصلُ بكلام لـ»نعيم»حول الحبّ الذي لا يكون مآله إلاّ الجنون حيث يحذّر «نعيم» الجالسين في المقهى من الحب: «إياكم والحبّ فإنّه جنون في جنون»وانطلاقا من تجربته يعتقد أنّ الحبّ لا يصيب العاشق بالجنون فحسب بل يجعله متسوّلا «بل يجعل الوحد مجدّي مثلي»ولا أعتقد أن جعل الاستجداء والتسوّل شرطا من شروط رضا «بدرية» على «نعيم»كان عفويا أو من باب تعجيب هذه العلاقة وأسْطَرَتِها بل هي في تقديري مقصودة من خلال التّماهي الخفي بين العاشق ممثّلا في «نعيم»والسّياسي ممثّلا في «نعمان»كناشط ثوري ينشد التغيير وفي شيوخ العشائر ومختلف السّياسيين الآخرين الذين تقودهم الانتهازية فكلّ منهم يستجدي منفعة أو رضا أو منحة كما يستجديها العشّاق. ولعلّ ما يؤكّد هذا المنحى وهذا القصد ما ورد في الفصل من تأكيد على تأثير أوضاع البلاد على الإنسان. فبعد أن صرخ «نعيم»: «من كان يمشي تائها فالسبب هو الحبّ» فسّر ذلك «سعد»أحد الجالسين في المقهى لصاحبيْه بأنّ الأمر «ارتداد عقلي عند «نعيم» أو انفصام في الشّخصيّة التي تمرّ على الإنسان في مثل بلدنا».وعلى هذا فالحبّ في هذا الفصل عصب الرواية الذي به وبتطوّراته تتقدّم الأحداث ويتوالى السّرد وهو مطيّة لطرح مختلف الجوانب السّياسية والاجتماعية التي تخصّ البلاد.
3 – حديث الوطن..حديث الاضطراب
من المفارقات أن يتهكّم «نعيم»المجنون أو المتسوّل من لاعبي الدومينو ويتهمهم بتضييع الوقت في هذا الوطن الذي كثرت أمراضه وعاهاته ‹فكلّ شيء فيه معكوس» و»كلّها عشائر ورجال دين وعادات وتقاليد.وكلّ واحد يحكي يطلع لسانه، وكأنّه كان قريبا من الله» ولذلك كانت لتلك الجلسة التي عقدها «نعمان»مع «محمود»و «سعد»في المقهى أهمّية إذا سرعان ما التفّ حولهم القوم أو تركوا ما بين أيديهم من لعب وأصخوا السّمع لما يُقال حتّى أن أحدهم خاطب «جاجو» اليهودي قائلاك «تعال وَلَكْ اسمع ما يحصل للوطن» فالبلد إذن في تلك الفترة التاريخية كما زمن كتابة الرّواية خلال السّنوات الأخيرة تعرف غليانا لخّصه تعليق أحدهم على ابراهيم في علاقته بصورة الملك فيصل أنّه «سيعلّق صورة أي ملك يحكم العراق» وهذا التّمهيد حول وضع البلاد وحالته هو الذي سيعطي المشروعية سرديّا لنعمان باعتباره رمز الثّورية آنذاك وربّما نجد لصوته صدى ثوريا في راهن العراق أيضا، ليتحدّث عن مشروعه الثّوري ويوجّه النّاس نحو تصوّر جديد للوطن والحياة والسّياسة باعتبارها إدارة للشّأن العّام.
4 – حديث الثّورة.
لقد كان حديث «نعمان» مطيّة لجلب انتباه السامعين، ليسمعوا له وهو يحدّثهم عن الوطن «لكن نعمان أدرك بحنكته أنّ حكايته تشعّبت وليس بإمكانه المواصلة أو قطعها. وقد أفرحه كلّ هذا الانتباه رغم تشتّته بين الفينة والأخرى حين يسوق أفكاره الوطنية ضدّ الاحتلال والملك»كما كانت تماما بالنّسبة لسعيد حكاية حبّ «نعيم» و «بدرية» أو حكاية عشق «محمود» أو «نعمان» مطايا ينساب من خلالها السّرد متعرّجا وهو يخوض من حين لآخر في قضايا السّياسة والوطن. ولذلك كان هذا الفصل مكتنزا بالقضايا والأفكار في مساحة ورقية قصيرة وكأنّه بيان سياسي حيث ورد على فيه حديث عن:
- أفكار «نعمان» وحزبه طبعا ضدّ الاحتلال والملك
- الاحتلال هو القهر على صدور العراقيين
- الاحتلال والاستعمار لم يخرج من العراق وإن استبدلوا الحاكم العسكري بالقائمقام
- ضرورة مواجهة الظّلم والاستعمار والاحتلال
- ضرورة التّغيير في نظام الحكم الذي يجب أن يكون من الشّعب إلى الشّعب
- فسّر لهم معنى العيش ألاّ يكون بلا مشاكل فيما يسرقك الحكّام بل هو العيش بكرامة والحصول على الخدمات
- الحكّام خدم للنّاس وليس العكس
- على النّاس عدم الميل إلى السّلطة وتقبيل أياديهم. فهذا يعني السّماح لهم بسرقة الخيرات.
- انتقاد الخضوع لأيّ سلطة بدءا من سلطة العشيرة إلى سلطة رجال الدّين إلى سلطة أصغر مسؤول في الدّولة
- أخبرهم بأهمّية النّفط لكونه ثروة العراق
- الاحتلال يعمل على استغلاله إن لم ينتبه الشّعب
- نبّه أنّ الخاسر هم الأبناء والجيل المقبل
- حذّر:وسيكون الجميع جائعين والنّفط هو الحرب المقبلة إذا لم يسيطر عليه الشّعب.
تبدو هذه النّقاط التي أوردها سعيد على لسان «نعمان»إعلان مبادئ عامّة للعيش الكريم في عراق الرّواية وإعلان مبادئ استشرافي أو إسقاطي انعكاسي على عراق اليوم الذي يعيش ما يعيش من ظروف واضطرابات يعرفها الجميع. فحال العراق اليوم حال العراق بالأمس مع فوارق طفيفة تتمثّل في تغيّر الفاعلين والمتصارعين وصورة العراق اليوم بعض من ملامح صورة العراق بالأمس.
5 – حديث التنوّع.. عراق الوحدة
لا أميل وأنا أقرأ الرّواية ككلّ أو وأنا أتوقّف متأمّلا الفصل السادس عشر أنّ علي لفتة سعيد قد أورد هذا التنوّع العرقي والديني والمذهبي في العراق بصفة عفوية لأنّه موجود فعلا. بل أجدني أجزم أنّه أورده بشكل مقصود وبتبئير ظاهر حين يجعل أبطاله مختلفين ففيهم اليهودي والنّصراني والمسلم السنّي والشّيعي والصابئي وهو يركّز على هذه الاختلافات حين ينقل لنا بعض التّنافر بينهم في درج الرّواية لكنّه يعقد الأواصر والرّوابط بينهم من خلال حبلين متينين: - حبل الحب والعشق: إذ يبتني علاقات حبّ بين محمود الصابئي وفتاة مسلمة سنّية وعلاقة حب بين نعمان المسلم الشيعي وتانيا المسيحية ثمّ علاقة حبّ مركزية في الرّواية بين «نعيم» و»بدرية»وهما أبناء عشيرتين متنافرتين. وكأنّه يشير بطرف خفي إلى أنّه لا مستقبل لأهل العراق ما لم يسد بينهم الحبّ والسّلام والتّعايش.
- حبل الانتماء للوطن:فالكل سواسيّة في الوطن. ولذلك فقد ردّ «نعمان» على «غضبان»الذي خاطب «جاجو» اليهودي بالقول «(أنتَ وينكْ من الوطَن.. بس فلوس ومن يأخذ أمّك يصير عمّك)»بالقول: «اليهود عراقيون، واختلاف الدّين لا يمنع الانتماء للوطن»
وبهذا يتبيّن أنّ الفصل السّادس عشر وتد خيمة الرّواية بما قام عليه من اكتناز. وبما لخّص من شأن مضماريْ الرّواية اللذين يدور حولهما السّرد ويسري منهما وبينهما، وهما مضمار الحبّ ومضمار الانتماء إلى الوطن وكأنّما علي لفتة سعيد يصرخ في البريّة أن لا حياة لكم يا أهل العراق إلاّ بالحبّ الإنساني عاطفة وبحبّ الوطن إيمانا وسلاما وتعايشا.ولذلك فقد استدعى بطرائق فنيّة بديعة عناصر التّاريخ،واصطنع لها حتّى لا تكون جافّة ثقيلة قصصَ حبّ مثيرة تكاد ترقى إلى مستوى الأسطرة التي تليق بعظمة العراق ومجده وتاريخه.فكانت أجواء الرّواية مفعمة بالتلاعب الفنيّ بالأزمنة وبكسر أفق الانتظار وبجعل حبل السّرد دولة بين أصوات متعدّدة فاستحقّت الرّواية أن تتقدّم لنا قصّةَ حبّ عتيق ونصّا معتّقا من حيث الفنّ والتّجريب والإبداع.