تحطيم القيود ومجابهة التسلّط الذكوري

فيلم “سيدة البحر”

خالد ربيع السيد

بدأ صناع الأفلام السعوديون، في السنوات القليلة الماضية، يحققون أفلاماً تتبع أنماطاً وقوالب سردية غير تقليدية، وربما يرجع ذلك الى وعيهم بأريحية الفن السينمائي الذي يمكنهم من حبك قصص درامية تبلغ ما يريدون إيصاله للجماهير، وفي نفس الوقت تعطيهم مساحة أوسع في التعبير عن رؤاهم الفكرية، بحيث لا تتصادم مع مسلمات العادات والتقاليد لمجتمعاتهم.

ضمن هذا المنحى تم انتاج فِيلم «سيدة البحر»، أول فِيلم طويل للمخرجة السعودية الشابة شهد أمين، وحقق التفاتا جماهيرياً ونقدياً غير مسبوق مع الأفلام السعودية من كبار النقاد العرب والغربيين عندما عرض في مهرجانات دولية.

من هذا المدخل سنقف في السطور التالية مع هذا الفيلم المهم الذي تم تصويره بالكامل بالأبيض والأسود، لتكون مدة عرضه 75 دقيقة.

يبدأ سرد الفيلم وقد ظهر “مثنّى” (الممثل يعقوب الفرحان) في ليلة مكتملة القمر وهو واقفاً أمام الشاطئ حاملاً بين يديه طفلته الصغيرة؛ ويرمقه رجال القرية حاملين المشاعل من خلفه استعدادًا لممارسة تقليد عتيد متمثّل في قيام كل أسرة بالتضحية بأطفالها من الإناث ووهبهن إلى المخلوقات الغامضة التي تعيش في مياه البحر. وبينما يدنو مثنى إلى البحر، يرق قلبه ويغيّر رأيه فجأة، مقررًا إنقاذ ابنته وعدم قذفها في الماء.

هكذا يستهل الفيلم والذي تناولت فيه مخرجته قضايا وموضوعات معاصرة؛ أحداثها الدرامية تجري بين الأسطورة والخيال، حيث الرمزية التي تحيل المشاهد الى تأمل الواقع المعاش، بمحاولة المخرجة التعبير عن المرأة واستحضار كيانها وصراعاتها ومعاناتها مع المجتمع.

ينتمي الفيلم الى نوع السينما الشعرية والواقعية السحرية في آن واحد، والذي يروي قصة تدور في قالب من الخيال مع ميل مقصود للتجريد عن طريق عدم تحديد المكان وجعل الزمان متشكلاً في الماضي القريب، وذلك قبل تطوّر سفن ووسائل الصيد من البحر، حيث يصوّر الفيلم مفردات هذه القصة في سياق غير تقليدي؛ بل يجنح للتجريب والتحرّر من “الحبكة” بقوامها المعتاد المعتمد على ما ينتج عن الصورة من تفسيرات وتداعيات تنثال في ذهن المشاهد.

عالم خيالي

إذن؛ تجري أحداث الفيلم، بلا حبكة درامية متكاملة، في جزيرة معزولة يقطنها صيادون في عرض البحر؛ في أجواء أسطورية بقرية نائية متشددة ضد الإناث، يضحي فيها أهلها ببناتهن من أجل معتقدات واهية، ولأجل كائنات وهمية تعيش في أعماق البحر. تتمثل تقاليد القرية في أن يقذفوا بالفتيات الصغيرات في البحر، قرباناً، حتى يعيش بقية أهل القرية بأمان، وهنا نتذكر تقليد “عروسة النيل” الذي كان متبعاً في الحضارة الفرعونية والذي يقدم فيه القوم فتاة عذراء يلقونها في النيل حتى لا يغضب عليهم ويفيض ويغرق زرعهم.

 هكذا تسير الأمور في هذه القرية؛ ثم تضع امرأة مولودة يطلقون عليها اسم “حياة” (دلالة الاسم لها أهمية) ويتعيّن تقديم حياة قربانا للبحر الهائج ولمخلوقاته وحورياته النهمة لالتهام القرابين، لكن والد حياة يتراجع عن إغراقها؛ فهي ابنته الوحيدة (المشهد الافتتاحي للفيلم) حتى وإن كان القربان الموعود للبحر وشياطينه، فان الصيادون اعتبروا “حياة” وصمة العار التي لحقت بهم، وأصبحوا يعتقدون أن إفلاتها من الغرق قد جلب لهم سوء الحظ.

ثم؛ بعد مرور ثلاثة عشرة عاماً، تكبر الطفلة “حياة” (الممثلة باسمة حجّار) وتصبح فتاة يافعة تعيش في القرية، الجزيرة، وتعمل في مصنع الملح، الذي تعمل فيه نساء القرية لاستخراج الملح من مياه البحر، وهو عمل شاق ومجهد.

خلفيات الأسطورة الوهم

الصيد وما يحمله من أسماك هو مصدر قوت أهل الجزيرة، وهو مرهون بتوفّر السمك في البحر. وحتى يتوفّر السمك لا بد أن يرضى البحر عن الصيادين، ففي مكان سحيق في الأعماق تعيش “سيدة البحر” أو الحورية الجبارة التي ينبغي طلب ودّها ونيل بركتها ورضاها باستمرار عن طريق تقديم الهدايا والقرابين لها، والقربان المعتاد يجب أن تكون فتاة شابة عذراء، ومن دون هذه التضحيات التي يتعيّن أن تقدّمها كل عائلة في الجزيرة، والتي أصبحت سلوكاً مقدساً وتقليداً متوارثاً عبر الأجيال لا ينبغي الحياد عنه، وبالتالي لن يرضى البحر ولن يهب الصيادين خيراته، وسوف لا ينعم عليهم بالقوت والسلام، بل يمكن أن تهب العواصف العاتية وتعصف بالسفن وتهلك أصحابها.

النظرة للمرأة في مجتمع ذكوري

لا يخفى على المشاهد بأن الفكرة العامة للقصة مستمدة من الواقع، لكنها تظهرها في السرد الفيلمي من خلال رؤية المخرجة الخاصة لمعاناة الأنثى والمرأة بشكل عام في المجتمع العربي التقليدي، وهو كما تراه مجتمعاً ذكورياً، يحاصر وجود المرأة ويقمعها، بل ويحرمها من حقها في الحياة، فهو يراها باعتبارها كائنا أدنى من الذكر، فلا يسمح لها الصيادون كما في حالة حياة التي يرمز اسمها للعطاء، بالخروج معهم للصيد، ويتم حرمانها بقسوة من ممارسة الحياة كما ترغب بدعوى أنها الضعيفة غير القادرة على الفعل الذي يقوم به الرجال، وبالتالي لن تقدر بطبيعة تكوينها الجسماني على تحمل مشاق الرحلات البحرية التي يخرج فيها رجال الأشداء للصيد. تنتفض “حياة” وتتمرد على هذه التقاليد، فتغيّر العادة الموروثة وتزعزع الوضع السائد وتصبح هي من تخافه القرية.

ويستمر السرد

الفتاة “حياة” تحاول أن تثبت لرجال القرية طوال الوقت أنها تتفوّق على الذكور بجرأتها وشجاعتها وإقدامها على الصيد وعلى النزول إلى البحر الهائج والعودة بما يعجز عن الإتيان به الرجال، ولكن بعد أن تضع والدة حياة مولوداً ذكراً يصبح أمر تقديم حياة قرباناً لسيدة البحر مفروغاً منه.

ولكنها تقفز وتختفي في البحر وتظل لأيام غائبة فيعتقد الصيادون أنها قضت وانتهى أمرها، لكنها تعود وتظل صامتة. وتدريجياً يتحوّل جسدها إلى جسد حورية البحر. لقد اكتسبت شكل الحورية الأسطورية التي يخشاها الجميع.

تقنيات وحرفية عالية

يلفت النظر في انتاج الفيلم تلك الحرفية العالية في خلق التكوين البصري للصورة السينمائية، فهناك خبرة فنية يتمتع بها مدير التصوير “جواو ريبرو”، لإبراز قوة البطلة وسط غرابة البيئة، وفي خضم ضآلة الإنسان أمام الطبيعة، ولأجل تحقيق ذلك الإحساس نجده وقد صبغ الصورة بمسحة ضبابية لتساهم في تعميق الإحساس بالطابع الخيالي الأسطوري للأحداث، دون إغفال مغزاها المعاصر طبعاً.

من ناحية أخرى نجد أن عملية التصوير بالأبيض والأسود تحيل المتفرج إلى الماضي والى عالم الحكايات التي نقرأها في كتاب “ألف ليلة وليلة”، إلى جانب هذا وذاك نجد القدرة العالية في توليف علاقة بديعة بين المؤثرات الصوتية وتتابع الصورة، باستخدام الأغنيات الفولكلورية والموسيقى الحسية الجذابة لـ(مايك وفابيان كورتزر).

المونتاج يعتمد الإيقاع الهادئ في الانتقال بين اللقطات والمشاهد؛ ليوحي بعمق الأسطورة في الزمن. ثم تداعيات الحوار بين الممثلين ونطق الجمل والكلمات بطريقة تساهم في غرائبية البناء الدرامي والشخصيات، لا لكي تبعدها عنّا، لكن لتقربنا كمشاهدين منها، بل والإيحاء لنا بأنها شخصيات حقيقية وحاضرة في مكان ما.

فريق العمل

قام بالأدوار الرئيسية الممثلون: الفلسطيني أشرف برهوم، يعقوب الفرحان، فاطمة الطائي، هيفاء الآغا، حفصة فيصل، عبد العزيز شتيان، بسيمة الحجّار؛ وهو انتاج سعودي اماراتي عراقي مشترك.

جوائز نالها فيلم «سيدة البحر»

•  نال جائزة فيرونا، عن فئة الفيلم الأكثر إبداعا بمهرجان البندقية2019م.

• حصل على التانيت البرونزي بمهرجان قرطاج في دورته 2019م.

• حاز جائزة ساذرلاند ضمن مسابقة أول فيلم روائي طويل. بمهرجان لندن السينمائي 2019م.

• حاز جائزة أفضل مخرج وجائزة لجنة النقاد بمهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف2019م.

• حاز جائزة الشاشة الفضية لأفضل فيلم روائي آسيوي بمهرجان سنغافورة السينمائي.

• عرض بمهرجان القاهرة السينمائي، ومهرجان السودان للسينما المستقلة، ومهرجان ساوث باي ساوث بولاية تكساس الأمريكية2019م.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة