المحافظة على الثيمة في “ديسفيرال”

يوسف عبود جويعد

في خطاب إنساني اجتماعي، يقدم لنا الروائي نوزت شمدين روايته (ديسفيرال)، التي تتناول ظاهرة مرضية ملفتة للانتباه والاهتمام، وهي المرضى المصابون بمرض فقر دم البحر الأبيض المتوسط، الذي يُعرف “بالثلاسيميا”، والمريض فيه يحتاج الى تعبئة الدم في جسمه كل ثلاثة أسابيع من ولادته وحتى مماته، ومن الوهلة الأولى ومن خط أول سطر في هذا النص، وحتى نهاية الأحداث، سنكون مع سليم وزوجته زاهدة وابنهم المصاب بهذا المرض جابر منذ ولادته، ورغم تقطيع الأحداث الى فصول، يتناوب في إدارة دفتها ونقلها برؤية فنية تعكس آثار هذا المرض وتداعياته لكل من الشخوص، سليم الأب يقدم لنا الأحداث يقودها وفق نظرة الأب لابنه الوحيد وهو يصارع الموت أمامه ومحاولاته المستميتة والشاقة لإنقاذ ابنه من براثن هذا المرض القاتل، والمراجعات المستمرة الى المستشفيات والبحث عن متبرعين بشكل مستمر، وتدور أحداث كبيرة وواسعة تتعلق بدور الأب ومكانته والاسلوب الذي يتعامل فيه من أجل إيجاد بصيص أمل للحيلولة دون فقدان ابنه وضياعه، وزاهدة الأم ودورها الكبير في السهر والعناية بابنها وحرمانها النوم وهي تتابع انفاسه ليلاً وتعتني به نهاراً وما يقتضي ذلك من تصرف ناتج عن العلاقة الحميمية الأصيلة بين الأم وابنها، ثم يأتي دور جابر الابن الذي أصيب بهذا المرض، كيف يفكر؟ وكيف يواجه مصيره؟ وكيف يتعامل مع هذا المرض؟ فضلاً عن ما يعانيه عندما يحتاج الى تعبئة الدم في جسمه، وكيف تكون حالته، والخمول والوهن الذي يصيبه جراء ذلك، ومعاناة مراجعة المستشفى وزرق الإبر بالوريد، ومتابعته للدم وهو ينزل قطرة قطرة إلى جسمه، والتفكير بمصيره المجهول وحياته المهددة بالموت، وقبل ذلك سوف نتابع تفاصيل شيقة ومهمة تتعلق بالعلاقة العاطفية بين زاهدة وسليم ابن عمها، وكيف أن العم رفض زواجهما، وحاول أن يزوجها لشاب غيره فتصدى سليم لكل من تقدم لها بالتهديد والوعيد للحيلولة دون إتمام الزواج، ولم يستطيع الفوز بها وزواجها، إلا بعد أن انتهت حرب الثمان سنوات، واحتفال الناس بهذه الفرحة والتعبير عن فرحهم بطرق متعددة ومنها إطلاق العيارات النارية، التي أصابت احداها العم عزام والد زاهدة واردته قتيلاً، عندها فقط استطاع سليم الاقتران بابنة عمه زاهدة، وكذلك سوف نتابع أيضاً بعض التفاصيل المهمة قبل اكتشاف جابر لهذا المرض:

(ليس أمامك سوى تزويده بالدم مرة واحدة كل ثلاثة أسابيع أو أربعة في أقصى حد، وبعد فترة حقنة بدواء جديد اسمه ديسفيرال تحت الجلد معظم أيام الأسبوع بواسطة مضخة خاصة. يجب حدوث هذين الأمرين مدى الحياة. منع الدم والدواء عنه يعني إعدامه) ص 49

ومن هناء جاء اختيار الروائي لبنية العنونة، حيث أن دواء الديسفيرال يعمل على إخراج كمية الحديد التي تتكون بالجسم نتيجة تكسر كريات الدم، وإخراجه عن طريق الادرار.

عمد الروائي على جعل الأحداث ضاجة مكتظة زاخرة بالتفاصيل السردية التي تتعلق بهذا المرض، وبشكل متواصل ومستمر، دون أن يحدث أي ثغرة في عملية بناء النص أو الإيقاع أو الانسيابية المطلوبة لهكذا نصوص سردية، فالمتلقي سوف يتأثر بشكل عميق ويتعاطف معه ويتابع تداعيات هذا المرض، بفضل التناوب السردي الحاصل في هذا النص، بين الأم والاب والابن جابر، وكل واحد منهم سوف يكشف المناطق المضيئة التي تتعلق بوجوده داخل النص ودوره المهم في سير حركة الأحداث، وسوف يشعر المتلقي بتلك العلاقة الاصيلة بينهم.

وكذلك سوف نتابع هذا التهافت والعناء والمراجعات والبحث عن خلاص الابن من هذا المرض، ورغم صعوبة حياة جابر وهو يحمل عناء هذا المرض، الا أنه يكبر بصموده وصبره وإصرار الأسرة على إنقاذه، وسنتابع أيضاً علاقة عاطفية نشأت بين جابر وبائعة الزهور، وسوف نمر بمفاجآت جمة، أهمها ومن محاسن الصدف بينما هم في المستشفى لتعبئة الدم لابنهم، يتعرف سليم الأب على ثائر وهو يدير مكتب لإنقاذ المصابين بهذا المرض، وله اتصال بمستشفيات إيطاليا التي تزرع نخاع جديد من أجل شفاء هؤلاء المرضى،وتدور تفاصيل كبيرة وطويلة لزج جابر ضمن قائمة المعالجين، الا أن الصعوبة تكمن في وجود متبرع لهذا النخاع، إذ إن سليم الاب يحاول دون جدوى، فيقترح عليهم الدكتور أن ينجبا مولود جديد، وينتظران وإن كان خال من المرض، يأخذون قطعة صغيره من نخاعه لجابر، وهكذا تدور الإحداث حتى يكبر إيثار أبنهم الجديد ويجريان الفحص عليه وتظهر النتائج إيجابية.

إن الروائي عمل على أن يكون مع تفاصيل هذا المرض وتداعياته، لإظهاره خطاباً إنسانياً اجتماعياً مهماً، ومن أجل أن يلفت الرأي العام على هذا المرض الخطير، وكذلك إظهار  الكم الكبير من المعاناة والالم والحزن للذين اصيبوا بهذا الداء، وطرق الكشف المستمرة للعلاج الناجح، أي ان الروائي لم ينشغل بأية تفاصيل خارج هذا الاطار.

ومع هذا وبعد سفر الاسرة برمتها الى ايطاليا، وبعد الفحص الدقيق يتبين عدم تطابق نخاع إيثار مع انسجة جابر، فيعودون والخيبة تملأ كيانهم:

(مسح الممرض البشوش مرفقي بالكحول. ثم نزع غطاء الإبرة وفي الوقت الذي كان سيغرزها في وريدي انتقلت إلى عالمي السري لأعلن هناك عن ألمي واحتجاجي وأبكي فيه مثلما اريد..) ص 252

لقد نجح الروائي نوزت شمدين وضمن أحداث روايته (ديسفيرال) أن يقدم لنا ثيمة إنسانية مهمة والحفاظ على أهمية نقلها في مسار سردي شيق، وسياق فني منسجم وإيقاع متزن ومتواصل.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة