“صرت كناكش الشوكة بالشوكة، اداوي بكم وانتم دائي” نهج البلاغة
ان فلسفة الاعلام ووظائفه الاساسية تبقى دائماً تدور حول الاركان المتعارف عليها وهي: المصداقية والمهنية والموضوعية. وكل خروج عن هذه الاركان يعرض النشاط الاعلامي الى اضرار كبيرة تلحق بسمعته ومكانته وبالتالي قدرته على التأثير واداء دوره المطلوب. ولأجل امتلاك اعلام مؤثر وفاعل؛ لابد من تجنيبه افخاخ الطائفية والذيلية الآيديولوجية والفئوية وضيق الافق وما يرافق ذلك من معايير سقيمة. وهذا ما يجب مواجهته بشجاعة في واقعنا الراهن المثقل بمثل هذه الآفات المميتة. ان مهمة تفعيل الاعلام الحكومي لا يمكن تحقيقها عبر اقرار المدونات العمومية وتدبيج “اوراق الاصلاح” مع بقاء مواقعه المفصلية واتجاهاته رهن مشيئة المحاصصة ومعاييرها المتنافرة ومنظومة القيم التي ارتقت بالدول ومؤسساتها المتخصصة بالخدمة العامة.
يفترض بالاعلام الحكومي في ظل نظام للعدالة الانتقالية، ان يقدم مثالاً رائداً على الاعلام المهني والمسؤول، وان يستقطب بذلك افضل القدرات والمواهب الاعلامية، المتميزة بالنزاهة والايثار والوعي العميق لما يواجه التجربة الفتية من مخاطر وتحديات. اي امتلاك مؤسسات اعلامية لا تواصل ارث وتقاليد النظام المباد في اضفاء “روح النصر” على كل موبقات وهزائم النظام النكراء، بل بالعكس من ذلك تماماً؛ أي ايصال رسالة واضحة ومسؤولة لجمهور المتلقين؛ عن الطبيعة والوظيفة المغايرة للاعلام الحكومي الجديد، من دون ذلك سنبقى مكتوفي الايدي امام الخسارة المتواصلة لثقة المراقب المحلي والاقليمي والدولي، وسط هذا السيل من التقارير الدولية التي تضع العراق غالباً على رأس قوائمها للبلدان الاكثر فساداً في شتى الحقول ومنها الاعلام وحرية التعبير عن الرأي. نحتاج الى اعلام يعيد ترميم العلاقة ومد الجسور الى المتلقين من شتى المستويات، عبر المكاشفة والمصارحة ومساعدتهم في الوصول الى المعلومة الصحيحة، وعدم التستر على الاخفاقات والتي ترافق كل عمل جاد وتدشيني في حياة المجتمعات والدول.
ان حصر مهمة “الاعلام الحكومي” بالدفاع عن الكيان الحكومي الذي يمثله (ظالماً كان ام مظلوما) يعني خسارته لنفسه كاعلام، وبالتالي تحوله الى اي شيء ما خلا الاعلام. ولان يحافظ على عنوانه الاساس (الاعلام) عليه ان يبرر ذلك في كل نشاط له ومواقف تجاه شتى القضايا، ولا يتوانى عن تسليط الضوء على بؤر الركود والفساد في موقع عمله اولاً وقبل كل شيء، كي يقدم المعلومة الصحيحة للمتابعين والمهتمين والجمهور. كما ينبغي علينا تسليط الضوء على التجارب الاعلامية الناجحة والجادة، والعمل على رعايتها وتعضيدها، وبالتالي الترويج لها كي تساهم بوضع اسس التقاليد الجديدة للاعلام الحر والمستقل، والشروع بخطوات متتالية لرفده بملاكات غير ملوثة بالحنين لتقاليد وترسانة مفردات النظام المباد ومؤسساته البالية. انها مهمة عسيرة من دون شك، لا سيما عندما نتعرف على حجم تسلل ممثلي الكتل المتنفذة في المفاصل الحيوية لهذا الحقل الحساس، والذين لن يتخلوا عن مواقعهم ونفوذهم بسهولة، اضافة الى ذلك ما خلفته لنا تجربة النظام المباد من حطام الملاكات والابواق وقرقوزات الاعلام التي تجيد نقل عدتها وديباجاتها “الاعلامية” من كتف الى كتف آخر، وغير ذلك الكثير من السلوكيات والتقاليد المتنافرة وقيم الاعلام المهني الشجاع والمستقل والتي يشكل وجوده حاجة اساسية في التصدي لتحديات هذه المرحلة الانتقالية والتي لم تجد لدى غيلان الاعلام المهيمن غير الخذلان..!
جمال جصاني