وظيفة المكان في الرواية: صيرورة أم بروتوكول ؟

د. نادية هناوي

الافتتان بسعة العالم المرئي في الرواية تعني أنّ هناك مسافة محسوبة مسبقاً بين ما هو واقعي وما هو تخييلي، وهذه المسافة هي التي اختلف النقاد والدارسون في تسميتها تسمية تصف أو تعكس مفهومية عملها أو تضبط الآلية التي على وفقها تتحقق وظيفتها. ومن تلك التسميات المكان/ الواقع / العالم / الفضاء / الموضع / موضعة / الحيز/ الجغرافيا/ النواة / الفراغ/ الطوبغرافيا / الديكور/ المعمار/ المنظر..الخ.

ولعل باشلار الأكثر انشغالا بضبط جماليات المكان بالمفهوم الصوري والمادي، منطلقا من فرضية أن المخيلة تحفر في عمق الكون تناهيا ولا تناهيا، وهو ما يولِّد الألفة بإزاء الوجود المرئي. وقد تجسدت هذه الألفة عند برسي لوبوك في ما سماه العين المبصرة والعين الباصرة في الكتابة الروائية حيث الأولى تزيد المرئي قوة وامتلاء، والثانية تزيده ثبوتية ووصفا.

وفضّل د. عبد الملك مرتاض تسمية المكان الروائي بالحيز لا بالفهم الذي اعتمده حميد لحمداني أي الأبعاد الكتابية المرسومة على بياض الورق؛ وإنما الصيغ الهندسية التي بها تضبط المساحة التي يتحرك فيها السارد والشخصيات وتثبت أو تتحرك فيها الأشياء والموجودات. واعتمد غيرهما تسميات أخراً، بيد أن المهم من وراء تلك المسميات هو تحديد المكان كمساحات أو مسافات أو أبعاد ومداخل ومخارج وسطوح وأسقف ومنعطفات وممرات وأقبية وكهوف.

وما كان لامبرتوايكو أن يجعل الرواية غابة كـ( استعارة للنص السردي) سوى إدراكه النظري والعملي أن للواقع بروتوكولات ذات قوانين خاصة تمكن الكاتب من وضع خارطة لهذه الغابة مفتوحة ساحرة أو مغلقة مخيفة فيها الطيور والأزهار والأفاعي والدبابير والحيوانات الضارية، كما أن لها مسالكها ودروبها وأماكنها المظلمة والموحشة، وما على القارئ سوى إيجاد مفاتيح هذه الخارطة. 

ولأن غاية اللعبة التخييلية الإيهام، يصبح بناء واقع روائي مشروطا بصيرورة بويطيقية وإستراتيجية نصيّة بهما يتأكد الوعي بالمكان إنسانيا وجغرافيا. ولا يتم بناء هذه الاستراتيجية إلا بعلاقة المكان البروتوكولية بالوصف وبالزمن وصياغة الأحداث ورسم الشخصيات ومنظورها واللغة وأنظمتها الاشارية التي تجعل المعطى الطوبوغرافي موصوفا بجغرافية فيها فراغات وأبعاد ومرجعيات واحياز وأشكال متناهية أو غير متناهية. وبهذه النمذجة الواقعية تصير الرموز مشفرة بالتقاطب أعلى/ أسفل أو بالاتجاه يمين/ شمال أو بالتأثر قريب/ بعيد. ولكل رمز حمولة مرجعية تسمح بافتراض علاقة خاصة بين المكان وإيديولوجيا الواقع. والمحصلة من جراء ذلك كله إيهامية الواقع. وأكثر الروايات واقعية هي التي تصور العالم بطريقة إيهامية، تستند إلى الوهم الذي يسميه رولان بارت( المحتمل).

ولأن الروايات لا تسير على وتيرة واحدة في توظيف المكان وتصوير مرجعياته وصفيا، تتفاوت الأنواع السردية، فالروايات الواقعية مثلا ذات أمكنة مألوفة وطبيعية، بينما الأمكنة في الروايات الأسطورية ذات إحداثيات جغرافية بدئية مستعادة. أما المكان في الروايات الفنتازية فمفتوح ومنفلت بعكس روايات تيار الوعي التي فيها المكان منغلق ذائب في ذهن الشخصية بقطيعة تامة مع الواقع أو بقطيعة مؤقتة.  

هذه الرؤى وغيرها كثير نتداولها على مستوى النظر الفكري التجريدي؛ لكننا على مستوى إبداع النص السردي الذي مادته الخيال ومحصلته( الرواية) سنكون إزاء إجرائية أكثر تمرساً، تقتضي من المكان أن يكون ملتاثا مع عناصر السرد الأخرى ببروتوكول، وموظفا بصيرورة حقيقة مع الزمان والأحداث والشخصيات واللغة والثيمات.

ولقد اكترث باختين كثيرا لوجود الكرنوتوبية في الرواية في خضم بحثه عن ظاهرتي الكرنفالية والحوارية وما يتمخض عنهما من تعددية أصوات سردية تجعل التشابك أمرا واقعا بين الزمان والمكان وقد انصهرا في بوتقة ما هو واقعي/ خيالي، واندمجا في صيرورة ما هو علائقي/ وظائفي. وبهذا تتشكل نواة الخطاب السردي التي بها يكون للشخصية منظورها أو وجهة نظرها أو صوتها بحسب جيرار جينيت.

وعلى وفق معطيات الإيهام السردي سيتوجه وعي القراءة عند القارئ الضمني المحتمل أو القارئ النموذجي المثالي. فيصبح للمكان ديكوره الخاص بعلاقات وصفية رمزية أسطورية أو واقعية جغرافية. وأهمية الوصف تكمن في كونه غير مستقل عن الزمان سواء بُني على التراكم وتعدد التفاصيل أو كان متشكلا من دواخل وزوايا وأركان بحسب حركة الشخصيات.

والمكان لا يتبلور وصفه إلا وهو مكمل عضوي لأجزاء السرد وقد أقام معها صلات تنظيمية بنيوية، بها يتحدد موقع السارد داخل الحكي الذي ـ وبحسب نظرية اوسبنسكي للمستوى المكاني ـ يكون موقعه متطابقا مع موقع الشخصية فيكون ملازما لها وقد لا يتطابق معها وعندها يستعمل عين الكاميرا التي تقوم بالمسح التتابعي أو (التبئير المتزامن) كما تسميه شلوميت ريمون، وقد يمسح السارد المكان بنظرة عين الطائر مسحا عاما شاملا لكل التفاصيل.

وقد يقف السارد بعيدا عن الشخصية فيراها لكنه لا يسمع صوتها مستعملا المشهد الصامت. وما على القارئ سوى تجميع أوصال الوصف لفهم المكان الروائي. 

وحين نتذوق جماليات المكان في عمل روائي ما وتأسرنا تفاصيله وديكوراته فلا يعني ذلك أن حنكة الروائي انصبت عليه وحده انما هي الحنكة في منسجة السرد زمكانيا وبالشكل الذي يجعل المكان مسردناً، وقد تداخلت عناصر الخطاب السردي بعضها مع بعض حتى أصبحت كتلة ذات نواة، تبهر القارئ وتؤنسه.

ولو كان رسم المكان وحده هو الذي يضمن للرواية التأثير والإدهاش لكانت الرواية الرقمية بتكنولوجياتها الافتراضية وتقنيات التصوير الدجيتالي ثلاثي الأبعاد وتقانات الصورة والصوت ضامنة لها التميز على مثيلتها الورقية.

ولا خلاف أن في الأعمال الروائية العالمية نماذج راقية، ليس لأن رسم المكان يحقق لها الصيرورة السردية وإنما هي الميكانيزمية التي ينغمس فيها وصف المكان بالحدث والحوار والشخصية فيصير ضاجا جاذبا. وبخلاف ذلك يغدو المكان ديكورا جامدا بلا حياة وبمعالم باهتة ليس فيها جماليات.

وما كان لفرانز كافكا أن يحدث ثورة في عالم الرواية لولا موضعته البروتوكول السردي بطريقة تفتح أبوابا جديدة للخيال راسمة أمكنة غير حقيقية ومع ذلك هي شفافة لها أبعادها الجغرافية وبمظهرية خلفية وأمامية وإيحائية.

ولنجيب محفوظ طريقته الخاصة في سردنة المكان على وفق بروتوكول خاص يبني بموجبه أنظمة أمكنته السردية بطريقة عبقرية، عاقدا صلات وثيقة بين المكان والسرد محولا الواقع المعيش الاعتيادي إلى واقع إدهاشي، فيه تبدو المدن والمحلات والشوارع واقعية جدا مع أنها ليست مطابقة للواقع الخارجي والسبب النظام الإشاري الذي يمسك باللحظات الزمانية وحركاتها فيغدو الوهمي واقعيا بأمكنة مؤثثة ومجردة، متحركة او ساكنة، مؤنثة ومذكرة، مؤسطرة ومؤنسنة، أليفة وموحشة.

هكذا يرسم محفوظ المنظر السردي أو المشهد الروائي محاكيا الواقع أو مشككا في حقيقته تهكما وسخرية ومفارقة. وفي رواية( زقاق المدق) يتعامل محفوظ مع المكان بدقة متناهية مرسومة بحذاقة عدسة فلمية تجعلك تشاهد الشارع الشعبي وهو يمر أمام عينيك وتتماهى مع شخصية حميدة تذرع مساحته وتقطع مسافاته وأنت عارف كواليسه وما يقبع خلفه من شوارع وأحياء. وكل ما تريده من المكان شاخص ومرسوم من دون أن يبلد عقلك أو ينحبس خيالك. بينما يغدو المكان في رواية( أولاد حارتنا) افتراضيا منخرطا في بروتوكول سردي تشترك فيه العناصر النصية مع بعضها من أول الرواية إلى نهايتها والمكان فيها يظل حيويا بحيوية الحدث وفواعله وكرنوتوبيته.

وفي (المرايا) يغدو الوصف تقانة مهمة بها تتضح حيوية المكان وهو يندس متماهيا في البروتوكول السردي بالعموم حتى لا نكاد نجد مقطعا يخلو من هذا التماهي الذي فيه الوصف يتعاقب متداخلا مع السرد بما يشبه تعاقب حركات السمفونية. والأمر نفسه نجده في رواياته الأخرى الحرافيش وميرامار وعصر الحب وأفراح القبة وليالي ألف ليلة والباقي من الزمن ساعة وأمام العرش ورحلة ابن فطومة والتنظيم السري والعائش في الحقيقة ويوم مقتل الزعيم وصباح الورد وقشتمر فضلا عن قصصه القصيرة. وهو ما يعزز عوالم السرد الخاصة التي انتهجها نجيب محفوظ فجعلت منه ظاهرة روائية عالمية.

إن صيرورة المكان في بروتوكول سردي واحد مع سائر عناصر البناء السردي هي التي تجعل الروائي مهندسا بارعا على مستوى المكان، وفيلسوفا على مستوى الثيمات، ومخرجا سينمائيا على مستوى وصف المشاهد واللقطات، وطبيبا نفسيا على مستوى استدعاء الوعي واللاوعي بالتذكر والتداعي والمونولوجات والمناجاة، ومصمما ورساما وغواصا على مستوى صناعة الشخصيات، ومحللا ميكانيكيا على مستوى التقانات مفارقة واسطرة وتغريبا وفنتزة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة