لماذا يوصي مثقفون بحرق جثامينهم؟

محمد حجيري|

ركيز

مع رحيل المعمار العراقي، رفعة الجادرجي، لوحظ أن بعض وسائل الاعلام، ركّز بقوة على وصيته التي قال فيها “كتبت وصيتي وهي في إنكلترا، أريد أن أحرق، لا أدفن، كي لا أدنّس الأرض”، وهو سبق وقال “أنا وزوجتي قررنا ألا ننجب أطفالاً لأن البشر يخرّبون الأرض”. وما بين اعتبار الدفن تدنيساً للأرض، والإنجاب تخريباً، تطرح أسئلة بديهية للنقاش، هل الوصية موقف إيديولوجي أو فكري أو ميتولوجي أو شخصي؟ هل كان المعمار العراقي “يعبد” الطبيعة مثلاً، هل كل البشر مخربون، هل الإنسان ابن الأرض أم يدنسها، ماذا عن تشييد العمارات مثلاً؟
وصية الجادرجي لم تحظ باهتمام و”استغراب” وسائل الاعلام فحسب، بل في أوساط بعض المثقفين أو الفنانين.

لفتني مثلاً الفنان التشكيلي العراقي محمود شوبر، إذ كتب في صفحته الفايسبوكية “أغلب الظن ان ما أكتبه الآن سوف يزعج الكثيرين، وكذلك سيجعلني في نظرهم في الدرك الاسفل من التخلف ومخالفة التقدمية بالطروحات والثقافة المعاصرة التي تستوجب مسايرة كل الأمزجة والآراء وحتى ما كان منها عفناً ومسموماً”. يتذكر شوبر أنه تابع الجادرجي في حديث تلفزيوني، تحدث خلاله عن وصيته بحرق جثته وقراره عدم الإنجاب، فيقول: “تسمرت وقتها أمام شاشة التلفاز مسائلاً نفسي أسئلة كثيرة، هل إن مرحلة الوعي التي أملكها لا تؤهلني أن أكون في مصاف تفكير هؤلاء الكبار! أم أن النصف الإيماني الذي بداخلي يقيدني ان اتوصل لهكذا حقائق عظيمة، ام ماذا؟ أسئلة وأسئلة قادتني الى عمق سيناريو الفيلم الشهير “الرسالة”، للراحل السوري العالمي مصطفى العقاد رحمه الله. والذي اصبح عند الكثير من امثالي الذين لا يفقهون شيئا في الدين والتدين مرجعية تاريخية وعقائدية نهرع اليها بذاكرتنا كلما بادرنا احداً بسؤال ديني. ومن ذاك العمق الافتراضي الذي هيجته أسئلتي استخرجت شخصية الممثل المغربي الشهير، والذي غاب عن ذهني اسمه الآن، والذي كان يؤدي شخصية أبو لهب، وقلت في نفسي، هل هناك حبل سري بينه وبين الچادرچي”.
بالطبع محمود شوبر الفنان، حر في معتقده، والجادرجي المعمار، هو حر في وصيته وتفكراته ومعتقداته وهي تخصّه وحده، ووصيته مجرد تفصيل لا ينبغي التوقّف كثيراً عندها في مقابل إنجازاته المعمارية الجديرة بالاهتمام، وكتبه الغنية التي تستحق أكثر من دراسة… هذا لا يمنع السؤال: لماذا يوصي بعض المثقفين والسياسيين والفنانين بحرق جثامينهم؟ لنقل أن الجادرجي قال إنه لا يؤمن بالدفن، فماذا عن غيره؟
الكاتب الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد، أوصى بحرق جثته ونثر ودفن رماده في لبنان، وهو ما تم في 30 أكتوبر 2003، فنقل رماده إلى مقبرة برمّانا الإنجيلية في ضهور الشوير، وكتب تفسيرات كثيرة متناقضة حول الحرق والدفن والمعنى والمعزى والسبب، وبعضهم أدخل المسألة في بوابة التأويلات الأسطورية، وبدأ يفسر النار والرماد فكرياً.
أيضاً، أوصى الروائي غابرييل غارثيا ماركيز، بحرق جثته لتتحول ذرات من الرماد المتناثر على أرض كولومبيا والمكسيك. وكان ماركيز في كتابه “قصص ضائعة”، قد كتب مقالًا بعنوان “أبهة الموت”، عن الروتين، ومأساة البيروقراطية في وكالة لدفن الموتى. بفعل الاعتياد والتعامل اليومي مع الموت، يفقد الموت هيبته، ويُعامل الموظفون الموتى وذويهم معاملة آلية باهتة. يذهب ماركيز ليشهد مراسم حرق جثة صديقه، فيجد التوابيت المشتراة من عائلات الموتى لتضم جثامين أحبتهم، وقد صارت بلا جدوى بعد انتهاء مراسم الدفن، فتعمد الوكالة إلى بيعها من جديد لعائلات موتى آخرين. صديق ماركيز، الزعيم الكوبي فيديل كاسترو، أُحرقت جثته بعد وفاته بناء على طلبه، ويقول صاحب مدونة eltoque.com الكوبي خوسي خاسان، إن “اختيار كاسترو لحرق جثته يرجع إلى طبيعته المتمردة. ورغم تربيته الكاثوليكية فهو ملحد”. 
وأوصت فريدا كاهلو بحرق جسدها كي تتخلص من الجسد الذي آلمها كثيراً، ونُثر رماده وحُفظ المتبقي منه في جرة داخل “البيت الأزرق” الذي تحول في ما بعد إلى متحف يضم لوحاتها ليحكي قصة المواجع التي لم تنته. كانت فريدا قد سجلت في مذكراتها، قبل وفاتها بأيام قليلة، عبارة حزينة تقول فيها “أتمنى أن يكون الخروج من هذه الحياة ممتعًا، كما أتمنى ألا أعود ثانية”.
وكشفت وصية المغني الراحل ديفيد بوي، نجم موسيقى الروك البريطاني، رغبته في نثر رماده في جزيرة بالي الإندونيسية وفقاً للطقوس البوذية. وأوصى بإشراف شخصين على تنفيذ الوصية، المؤلفة من 20 صفحة، والتي أُعدّت العام 2004 بالاسم القانوني للمغني الراحل ديفيد روبرت جونز.
هذه بعض النماذج عن موضوع نكتبه باختصار، حول حرق الجثث في العالم، وهي قضية شخصية ذاتية ولا ينبغي وضعها في موضع النظرة الهذيانية، ولا ينبغي الحكم عليها انطلاقاً من ولاء ديني.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة