الكتابة من حالة التأزم في “انتحار تكتيكي”

يوسف عبود جويعد

تبدأ أحداث رواية (انتحار تكتيكي) للروائية تهاني محمد، من حالة التأزم التي تعد أحد الادوات المهمة والرئيسة في فن صناعة الرواية، وتلك الاداة التي تحمل التسلسل رقم ثلاثة من ضمن السياق الفني لعملية معالجة الاحداث، في متن مبنى النص السردي الروائي، والتي يجب أن يكون قبلها ضمن السياق، التعريف والحبكة وبعدها يأتي التأزم، ثم الانفراج. وهذه العملية الفنية تتطلب من الروائي، المحافظة القصوى على هذا التأزم في عملية التدوين، وكذلك المحافظة على إيقاعه وانسيابيته، لأنه يحتاج الى الكثير من الوعي  والحس الفني الحذر في مسيرة الحركة السردية. ويسير المتن الروائي بخطين متوازيين اولاهما البؤرة الرئيسة التي انطلقت على مساحتها الاحداث، وهو الذي يضمر بين ثناياه الزمان والمكان لمحتوى النص، لأن الروائية وضعت في هذا المسار الحقب الزمنية والتاريخية المعاصرة التي نقلت هذا البلد من حرب الى حرب متوالية دون توقف. وتبدأ من حرب الثماني سنوات وما تلاها من احداث وحروب، غزو الكويت، الحصار، حرب الخليج الثانية، ثم السقوط، وما بعد السقوط. واستطاعت الروائية من خلال هذا المسار أن تقدم لنا الحياة بشكل ملفت للانتباه وبدقه متناهية، مع انعكاس التداعيات النفسية والقلق والخوف والوحشية والقسوة، والظلم الذي لحق بالإنسان داخل هذا البلد، لتأتي من خلال ذلك اللغة السردية المركبة من تلك العناصر، وهي متدفقة خصبة ثرية تنسجم والسياق الفني المطلوب لمتن النص، وبالرغم من أن هذه الثيمة وهذه الفكرة قد تناولها الكثير من الرواة في اعمالهم الروائية، الا أن ما يميز هذا النص، الجرأة الواضحة فيه، وإطلاق المسكوت عنه بكل حرية ودون تردد، لأننا ومع المسار الاول سوف نتابع المسار الثاني، المتمثل بالشخصية الرئيسة لهذا العمل الروائي (حسين) الذي يطلق الرصاص من بندقيته على ساقه ويهشم عظامها من أجل أن يجد طريقاً للخلاص من حياة الحرب والنيران المشتعلة، والموت المحيط به وبكل من رمى بإتونها عنوة ودون ارادة. وهو رافض رفضاً قاطعاً الاشتراك في هذه الحرب التي لا طائل منها، سوى زهو وفخر القائد بالنصر وهو يرى آلاف الجثث من كلا الجانبين ملقاة على الارض الحرام، تفوح منها روائح الظلم والجبروت، وبعد ان يسعف ويجرى له التضميد وتجبير للكسر، وتعليق قناني الدم والمغذي، تبدأ حالة التأزم تلك تزداد قسوة بظهور رجال الامن لاعتقاله، كونه حاول الانتحار للهرب من الحرب ونعت بالجبان:

 – اخلع عنه انابيب المصل والدم أيها الطبيب، فهذا الخائن لابد من أن يودع السجن العسكري الآن للتحقيق معه.

تردد الطبيب قليلاً في الجواب ثم خرج صوته متحشرجاً من بين شفتيه وأجاب بحذر شديد:

– لكن الرجل مصابٌ بكسر شديد، وخطر في ساقه، وقد نزف الكثير من الدم، ونسبة دمه الآن متدنية، وأيضاً أي حركة للساق قد تصيبه بضرر وعطل دائم فيها. ص31

وهكذا ينتقل “حسين” من المشفى الى رحلة مضنية وقاسية من التعذيب، رغم آلامه واوجاعه وساقه التي لم تشف، حيث تستخدم هذه الاوجاع للضغط عليه وتعذيبه حتى تندمل ساقه وتزداد جروحه قساوة فتعوج ساقه، ثم ينقل الى المشفى لاستئصال كليته، وبقاءه بكلية واحدة، وعندما يجدون أن لا فائدة من بقائه بعد ان تعوق، يسرح من الخدمة. وعندما يسأل عن “ندى” حبيبته ورفيقة دربه، يكتشف أنها قد تزوجت فيصاب بالإحباط.. وهنا يبرز المسار الاول والبؤرة الرئيسة لتعتلي منصة السرد. بعد أن احسسنا أن الاحداث قد توقفت، لتظهر الحروب الاخرى اللاحقة بعد انتهاء الحرب الاولى، ونعيش تفاصيل تلك الحياة وتلك الحقب الزمنية المفعمة بالحروب بشكل تفصيلي لا يخلو من المتعة والمتابعة، بعدها يعود المسار الثاني لنكتشف أن “حسين” قد تزوج وله ابن هو استاذ في الجامعة، ونكتشف ايضاً أن “سارة” ابنة “ندى” طالبة تدرس تحت إشراف علي ابنه، لنكون مع فاصل قصيرة مقولة لاوشو:

” تتداخلُ الحياة بعضها مع بعض، كالضفيرة، وكلُّ شيء فيها هو جزء من شيء آخر” ص123 .

لنعيش حالة تأزم جديدة، تخص “علي” الابن، حيث تنشأ علاقة عاطفية حميمية بينه وبين سارة ابنة ندى، ويتهيأ لخطبتها، الا أنه يتعرض الى اختطاف، ويستطيع الخلاص من قبل امرأة تعرفه وتعرف والده، وهي عاهرة تعيش مع الجماعة المتشددة. ويظل هذا المسار طاغياً، وتكون المفاجأة التي هيأت لها الروائية بشكل متقن ليلتقي حسين بحبيبته التي ظل يعيش على ذكراها، وكان لقاءً ملتهبا حزينا رغم الصمت الذي غلف الطرفين، ورغم السكون، ثم تتم الخطبة والزواج:

( من النافذة المفتوحة لغرفة النوم بدأت خيوط الشمس الاولى تتسلل وتشق العتمة، مشكلة شلالاً من نور تسبحُ فيه كائنات صغيرة، غير مبالية بضجيج الكون، ثم تراقصت في الشلال فراشتان تسبحُ اجنحتهما الصفراء الذهبية ببقعها السوداء. في عالم ضبابي سحري يأتي من بعيد، من الجانب الآخر، حيث تسكن الحقيقة خلف أسوار الانتظار .) ص 192

إن الأعمال الفنية الناضجة، تظهر بعد أن تضع الحرب أوزارها، وتمر مدة عليها، ومن تلك الاعمال الفنية الروائية، رواية (موت تكتيكي)، والتي تشير بنية العنونة الى محتوى النص، بأن الحياة التي نعيشها موت تكتيكي منظم.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة