قراءة في عتبات “زيتٌ لفانوس أبي العلاء” لعادل الصويري

يحدثُ أن يصيرَ الشعرُ  زيتًا

د.صباح حسن عبيد التميمي

               الشاعرُ الصويري خالقُ غرائِب، خيّاطٌ ماهرٌ يخيطُ من الكلمات المُبعثرة قمصانًا زاهية،   يخلقُ من طينِ اللغة البِكْر شعراً كهيئة الزيت، فتشتعلُ ، وتلتهب حروفها بعد أن كانت خافتة تحت رماد المعاجم، هو  رائي يلحظ الأشياء بعين خيالِه، هو بيننا نراه من دم ولحم، يبتسمُ لنا حين نومئ له، ولكنه في تجاربه رجلٌ من ورق، يبتسمُ شعراً ويبكي شعرًا، يصرخ شعرًا، بل يتنفسُ شعرًا، يأخذنا من تلابيبنا إلى عوالمه الورقية تلك، فنتيه في دروبها الحبرية، ونصير من ورقٍ أيضا.

               هو في تجربته هذه – التي سننشغل بعتباتها – يبدأ بغوايتنا منذ عنوان مدوّنته، فيرمي لنا حبائل شياطين الشعر؛ ليغوينا، يقترحُ عنونةَ مجموعته (زيتٌ لفانوس أبي العلاء)؛ لتكون سمسارًا مخادعًا بيننا وبينه ،وهي – على المستوى النحوي – جملة اسمية تدلّ على الثبات، وهو ثبات يشي باستقرار الأنا الشاعرة وثقتها بنفسها، فاستدعاء (أبي العلاء) بكلّ ما يحمل هذا الاسم من ثقلٍ رمزي، بهذه الطريقة يكشف عن تكنيك ذكي، ووعي عميق بوظيفة (العتبات) في تشكيل (البعد الإغوائي) الذي ينجح في توجه القراءة الوجهة التي تصطفيها الأنا الشاعر، فتأخذ المتلقي باختيارها لا باختياره نحو عوالم التجربة، ومناخاتها الخاصة .

               وتتأتّى ثقة الأنا الشاعرة بنفسها من تحويل (شعرها) إلى زيتٍ لحنقِ (فانوس) أبي العلاء بالاشتعال، والفانوس هنا رمزٌ للشعر؛ لأنّ الشعر يُضئ عتمة النفوس، مثلما يُضئ الفانوس عتمة الأماكن، وهنا تتشكّل لدينا المعادلة الآتية :

               زيتُ عادل الصويري + فانوس أبي العلاء = إعادة إشعال الكتابة العمودية

               وهذه التفاتة ذكية وخطيرة في الآن نفسه، وهي محاولة للجمع بين التراث والحداثة منذ اللحظة العنوانية، وهي تكنيك تعتيبي يمنح هذه التجربة هويتها ، وانتمائها منذ لحظ القراءة البصرية الأولى، عبر الكشف عن فضائها الكتابي الذي تتحرّك فيه وهو (العمود الجديد)؛ لأنّ أبا العلاء المُزوّد بالزيت هنا، هو رمزٌ للكتابة الشعرية الكلاسيكية العربية الفخمة، وقد أسهم غلاف المدوّنة بصريّا في نقلنا إلى جهة التراث، حيث اللون الرمادي، والعنوان المطبوع بخطٍّ زيتي منبثق من الظلمة المحيطة به، كلّها أثارت فينا إحساس محاولة إشعال القَدَامَة بزيت الحداثة.

               وإذا خرجنا من لعبة عتبة العنوان، واسترحنا لكشوفاتنا التي دلتنا عليها هي، أوقعنا الشاعر في لعبة أخرى، ولكنها هذه المرة (غيرية وليست ذاتية من صنع الشاعر)، وهي ما أسميته في كتابي (شعرية النص الموازي في الخطاب الشعري المعاصر – المقولة والاجراء : ص311) بـ (الخطاب التقديمي الغيري) وهو ((الذي تتكفل بتقديمه شخصية مثقفة مشهورة (شاعر، روائي، ناقد، صحفي) ترتبط مع الشاعر صاحب المدونة الأصلي بعلاقة حميمة نابعة من صحبة اجتماعية أو قرائية ينتج عنها فهم عام للتجربة الشعرية))، وقد كتب تقديم المدونة المقروءة هنا الشاعر اللبناني (محمد حسين بزّي) تحت عنوانٍ حَذِرٍ هو : (بمثابة التقديم)، وعنوان التقديم هذا يُشعرنا بوجود الآخر الحَذِر داخل (كاتب التقديم)، وهو يترجم لنا خطورة المكتوب عنه، وهذا ما صرّح به هو نفسه بقوله : ((هذا الشاعر خطير، وحقٌّ للخطير أن يُخاطر دائمًا وإلا لم يكن الشعر)) ص6 ، وهذه الإشارة تُنمّي لدينا ما سجلناه مُسبقًا عن خطورة تجربة عادل الصويري في مدونته هذه والمتمثلة  بتحويل شعره إلى زيت لفانوس أبي العلاء.

               وضمن اشتغاله الواعي على الخطاب التعتيبي يصطفي الصويري بيتًا لأبي العلاء؛ ليُمثّل ما أطلقت عليه في كتابي سابق الذكر ص298 (التصدير الكلّي = تصدير مدوّنة): ((وفيه تنتشر إشعاعات النص المُستدعى – في الغالب – في فضاءات نصوص المدوّنة الشعرية كلّها، وترتبط معه – أي التصدير – وفق علاقة اتصال مباشرة تنهمك – في ضوئها – معظم النصوص في البنية الدلالية العامة، والاشارات السيميائية المتخفية التي يحملها النص المُستدعَى [التصدير]))، وهذا ما حدث فعلا في التجربة المقروءة هنا، فقد تكلّم لنا أبو العلاء في بيته الذي تصدّر مجموعة الصويري وهو :

                                            مهجَتِي ضِدٌّ يُحاربني        أنا منّي كيفَ يحترس

عن جملة أسرار في هذه المجموعة أوّلها (القلق الوجودي)، و(السؤال)، و(التمرّد) ، وهي ما كان أبو العلاء مسكونًا بها، وها هو الصويري يستدعيها جميعها في بيت يختاره ليتصدر مدوّنته، وكما قِيل قديما: ((اختيارُ المرءِ قطعةٌ من عقلِهِ))، فنحن هنا نستطيع أن نتّهم الصويري بعقدة العلائية، تلك النزعة المتلفسفة المتسائلة المتمرّد الرافضة، وقد تسعفنا في ذلك نصوص المدوّنة في الداخل الشعري، فلنسمعه ماذا يقول في نصه الأول من المدوّنة (هديلُ الأضداد) ص9 – 10:

               وأمشي

               وفي رأسي المساءُ يُؤجّجُ..

               ملامِحَ إنسانٍ مِنَ الكأسِ تخرجُ

               غفوتُ على ضِدّينِ فيَّ تصارَعا

كأنَّ اغترابَ الروح في الروحِ منهجُ…

ثمّ يضجُّ النص بالأسئلة :

أليس لنا غارٌ يلمُّ سؤالنا؟

وهل عنكبوتٌ للإجابة ينسجُ

طبخنا بِقدرِ الانتظارِ طُيوفَنا

متى يا إله الحالمين سننضِجُ؟

نفلسِفُ فحوى الذاتِ مِلءَ تناقضٍ

وفينا يقينٌ مُربَكٌ مُتَموّجُ…

فالأنا في هذا النص مسكونة بالتساؤل، محشوّة بالقلق الوجودي، هي في صراع دائم مع المتناقضات، بحثًا عن إجابات تملأ هذه الفراغات التي تتضخّم في داخلها، وهذه الفجوات التي تكبُر قلقًا بعد قلق، وهذا هو خطاب أبي العلاء الشعري نفسه، لكنه هنا بلغة معاصرة، إنّه بعث جديد لرفات شعره المنطفئ في الماضي، زيتٌ يوقد ظلمة هذا الرجل المتسائل القلق، أو هي محاولة لإيقاظ أبي العلاء النائم في الصويري.

وتنتهي المدوّنة بعتبة مهمّة أخرى أسميتها بـ(المُقتبسات الذاتية)، وهي عبارة عن نصّ مُنتخب من داخل متن المدوّنة؛ ليحتل فضاءَ غلافها الخلفي، وقد نجح الشاعر في اصطفاء عيّنة عتباتية تتداخل مع العتبات السابقة، وتتعاضد معها؛ لخلق خطابِ عتباتٍ واعٍ، يقول في هذا المُقتَبَس :

جِئتُ ابتكارًا للظِّلال

فَخَوْفِيَ الشَجَرِيُّ فاسُ

الريحُ تستلقي

على حُلْمِي شظايا الريحِ ناسُ

جاسَتْ بروحيَ والتمعتُ

فَجُرْحِيَ المَخْبُوءُ ماسُ

تُهيمن على هذا النص استعارات وتشبيهات نجحت في تحطيم سكون منطق اللغة المعيارية، وتبخير زوائدها، وترشيح فائض الكلام فيها، وجعلها توحي بفيض من المعاني، عبر نزر من المباني، فمجيئ الأنا الشاعرة الذي يشبه (ابتكار الظلال)، و(خوفها الشجري الذي يشبه الفأس) و(الريح المستلقية على حلم الأنا)، (وشظايا هذه الريح التي تشبه الناس)، التي جاست بروح الشاعر، فاستفزت مخبوءه وأثارت لمعان ماسه، كل ذلك النسيج البياني عمل على تشكيل الدلالة الرمزية التي تشي بالتمرّد، والميل للمغايرة، وهي بعد ذلك تشير الى تدفق الذات ولمعانها في كومة الظلال المحيط بها .

وهكذا نجد أن  طبيعة التكوّن والنمو المحوري للعتبات الخارجية للمدوّنة المقروءة ، أسهمت بشكل فاعل في اندفاع المعنى الإيحائي نحو التخلق الكامل بالتجربة، بشكل متماهٍ مع حركة الأنا الشاعر، مع الآخر المُستدعى (ابو العلاء)؛ وقد نجح الشاعر في توظيف العتبات بفاعلية أكثر في التأثير والكشف عن مخبوء التجرية، ومخفي المعنى .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة